اتفاق غزة: عن الأسباب الدافعة إلى الصفقة
![]() ![]() ![]() |
باسم القاسم
باحث فلسطيني في الشأن الإسرائيليمع اقتراب موعد تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، يسير ملف المفاوضات غير المباشرة حول صفقة في غزة بشكل متسارع، وقد بات عددٌ من المعطيات والتطورات يُشير إلى قرب موعد إتمام هذه الصفقة، بغض النظر عن ما سوف تفضي إليه في نهاية المطاف: إلى الإنهاء الكلي والدائم للحرب المستمرة أكثر من 15 شهراً أو أن هناك إمكانية لتجددها تحت ذرائع متعددة ومتجددة بعد أسابيع أو أشهر قليلة.
سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على الأسباب والظروف الدافعة إلى عقد هذه الصفقة.
عمد بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة اليمينية الدينية القومية المتطرفة، منذ بدء العدوان على قطاع غزة وانطلاق عجلة المفاوضات غير المباشرة مع حركة حماس وفصائل المقاومة في غزة، إلى اتباع إستراتيجية المماطلة لكسب الوقت وممارسة عملية خداع لأهالي الأسرى الإسرائيليين والجبهة الداخلية الإسرائيلية. استغل نتنياهو ذلك من أجل ضمان استمرار حكومته، ومحاولة غسل عار الإخفاق الأمني والإستراتيجي التي مُنيت به إسرائيل جرّاء عملية «طوفان الأقصى».
ومع انتخاب ترامب رئيساً جديداً للولايات المتحدة، وتوجهات الإدارة الأميركية الجديدة نحو خفض التصعيد في الشرق الأوسط، ومن بينها الحرب في غزة، حاول نتنياهو استغلال المدة الفاصلة بين انتخاب ترامب وتسلّمه مقاليد الحكم، كوقت ضائع من أجل إحداث تغيّرات إستراتيجية في الجبهة الجنوبية مع غزة، وخصوصاً بعد إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في الجبهة الشمالية مع لبنان، مستغلاً حالة النشوة التي شعر بها الكيان مع إسقاط النظام في سوريا.
وقد استغلت إسرائيل مدة المماطلة بالمفاوضات من أجل إحراز تقدّم ميداني يُشكّل نقلة إستراتيجية حاسمة؛ انكسار المقاومة في شمال غزة، ثم الانتقال إلى وسط القطاع وجنوبه، ما يُكسب الكيان أوراق قوة وإنجازات ميدانية يستخدمها في فرض شروطه لإتمام صفقة تبادل وترتيبات اليوم التالي للحرب وإدارة القطاع.
لا شك في أن إسرائيل فشلت في القضاء على المقاومة في شمالي غزة، لكنها في المقابل استغلت الوقت من أجل تدمير أكبر قدر ممكن من الأحياء والبنى التحتية، وخصوصاً بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا، من أجل إيجاد منطقة عازلة على الشريط الحدودي المحاذي لمستوطنات غلاف غزة.
يتّضح من التفاصيل التي نُشرت في الإعلام حول مسوّدة الاتفاق، أن الصيغة الحالية للاتفاق ترتكز بشكل كبير إلى صيغة مسوّدة الاتفاق التي تبنّاها الرئيس جو بايدن في أيار/مايو 2024، ووافقت عليها حماس، بينما رفضها الجانب الإسرائيلي.
وبالتالي نحن أمام اتفاق كان من الممكن القبول به منذ أكثر من 7 أشهر، لكن التعنّت والغطرسة الإسرائيليين حالا دون تحقيقه؛ فما الذي تغير منذ ذلك التوقيت، هناك أسباب وعوامل عدة أبرزها:
أولاً: خلال السبعة أشهر الماضية، وخصوصاً في مدة الثلاثة أشهر الأخيرة، أي فترة الحملة البرية التي أطلقها الاحتلال في شمال غزة في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2024 والتي أراد عبرها كسر إرادة المقاومة، أظهرت المعطيات الميدانية عكس ما أراد الاحتلال، فقد صمدت المقاومة وكبّدت جيش الاحتلال أكثر من 50 قتيلاً ومئات الجرحى، 17 قتيلاً منهم سقطوا منذ مطلع عام 2025، بحسب اعترافات الجيش الإسرائيلي، وجلّ القتلى والجرحى كانوا من قوات النخبة في لوائَي ناحال وجفعاتي وبرتب عسكرية عالية (كشفت صحيفة «إسرائيل اليوم» أن 80% من قادة لواء جفعاتي قتلوا أو جرحوا في العدوان على قطاع غزة).
وبذلك يصل عدد ما تم قتله من الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحملة البرية في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى أكثر من 400 قتيل. وهذا عدد كبير بالنسبة إلى المعايير الإسرائيلية وحساسية «المجتمع الإسرائيلي» تجاه القتلى العسكريين، مع الإشارة إلى أن الأعداد أكثر بكثير من ما يـُعلِن عنها الجانب الإسرائيلي بسبب الرقابة.
أثبتت كتائب القسام وباقي فصائل المقاومة في غزة، قدرتها على إعادة الترميم وبناء الخلايا والعقد العسكرية عبر عمليات التجنيد المستمرة والمتزايدة للمقاتلين، واستخدامها تكتيكات عسكرية عجز الاحتلال عن التنبؤ بها والتغلّب عليها منها: تفخيخ مئات المنازل، ووضع عشرات الكاميرات لرصد الأهداف والانتقاء بينها وفقاً لأهمية الهدف، وعمليات الكر والفر في جباليا وبيت حانوت وبيت لاهيا، واستخدام الأنفاق، والوصول إلى مواقع تمركز القوات الإسرائيلية. قدرة المقاومة على إعادة تدوير واستخدام مخلفات الذخائر الإسرائيلية التي لم تنفجر، وقد ظهر ذلك عبر «العبوات البرميلية» الشديدة الانفجار؛ والتي أدت إلى تفجير دبابات ومبانٍ تحصّنت فيها قوات الاحتلال وسقوط عدد كبير من القتلى. تجري المقاومة عمليات مناوبة واستبدال لدى خلاياها المقاتلة في الصفوف الأمامية، ما يعطيها القدرة على الاستمرار في حرب استنزاف طويلة مع الاحتلال. نجاح المقاومة في عمليات استدراج الجنود الإسرائيليين للكمائن المعدة مسبقاً.
ثانياً: اقتراب موعد تسلّم ترامب لمنصبه الرئاسي في البيت الأبيض، وإعلانه أكثر من مرة أنه لا يريد استمرار الحروب التي كانت مشتعلة قبل انتخابه (لا يريد أن يرث حروباً)، ولا يريد استئناف حروب جديدة أو اشتعالها، وخصوصاً في المدة الأولى من ولايته الثانية؛ ما شكّل رافعة ضغط على الجانب الإسرائيلي أكثر منه على جانب المقاومة، التي ليس لديها ما تخسره، والتي كانت وتيرة عملياتها ضدّ قوات الاحتلال تتصاعد وتحرز إصابات بالغة. وبالتالي لا يريد نتنياهو التصادم مع إدارة ترامب الجديدة، ومن أجل بناء علاقات متينة للمدة المقبلة، كما يحاول نتنياهو تسويق الاتفاق من باب النزول عند رغبة ترامب وكهدية لولايته الجديدة.
ثالثاً: حالة الإنهاك العسكري لدى الجيش الإسرائيلي، والذي يحتاج إلى تجنيد أكثر من 12 ألف إسرائيلي (وفقاً لمعطيات الجيش) لسد النقص في الموارد البشرية الإسرائيلية، في ظل فشل تجنيد الحريديم، وخصوصاً مع عزوف المئات من قوات الاحتياط عن إعادة الالتحاق بوحداتهم، بسبب حالة الإحباط وعدم وضوح الرؤية الإستراتيجية للحرب وجدواها وطول مدتها مع عدم تحديد مدة انتهائها. وقد نقلت القناة 13 الإسرائيلية عن مسؤولين كبار في الجيش، قولهم إن «العملية البرية استنفدت نفسها. في غياب صفقة، سنعود إلى الأماكن نفسها». وأوضحوا أن العودة إلى المواقع التي سبق أن عملت فيها القوات في القطاع ستكلف أثماناً باهظة، وستؤدي إلى سقوط المزيد من الجنود. كما نبه الجنرال الإسرائيلي في الاحتياط، يسرائيل زيف، إلى أن الحرب على غزة قد تحولت إلى هدف بحد ذاته، وأنها باتت تشبه الحرب الأميركية في فيتنام.
رابعاً: يعاني جيش الاحتلال نقصاً في المدرعات والدبابات بسبب الخسائر في غزة ولبنان، وحالة الحرب في القطاع والاستنفار في الجبهة الشمالية مع لبنان، وهناك عجز لدى الجيش في إمداد قواتها العاملة في الضفة الغربية بالدبابات، كما يعاني الاحتلال من صعوبة الحصول على الأسلحة والذخائر (بسبب حظر بيع الأسلحة لإسرائيل)، لتعويض ما تم استهلاكه في حربه على جبهات عدة. وفي هذا الإطار، وقّعت وزارة الأمن في 6/1/2025، على صفقتين كبيرتين مع شركة «ألبيت» للصناعات العسكرية الإسرائيلية، لإنتاج آلاف الذخائر الجوية الثقيلة وإنشاء مصنع «وطني» للمواد الخام.
خامساً: تراجع الإجماع الإسرائيلي على استمرار الحرب والاندفاع أكثر نحو تأييد عقد صفقة مع غزة (88%، استطلاع الرأي أجراه معهد «لازار»، وخصوصاً مع عدم قدرة الاحتلال على تحقيق أي من أهدافه المعلنة، باستثناء التدمير الممنهج للأحياء السكنية والبنية التحتية في قطاع غزة (إبادة المكان)، والإمعان في الإبادة الجماعية للسكان.
سادساً: لا يوجد احتمالية لسقوط حكومة نتنياهو اليمنية المتطرفة، لأسباب عدة، منها:
التحضير المسبق لاحتمالية انسحاب بن غفير (6 أعضاء) من الحكومة، عبر قيام نتنياهو بضم جدعون ساعر إلى الحكومة في 29/9/2024 (لحزب ساعر 4 أعضاء في الكنيست، ما يعني أنه بات للحكومة الحالية 68 صوتاً بالكنيست)، بما يضمن استمرار الحكومة بتأييد 62 نائباً.
لا يوجد خيار لدى اليمين القومي الديني المتطرف بالتضحية بالحكومة الحالية، لتيقُّنهم أن عودتهم إلى الحكم باتت مستحيلةً في المدى القريب (تراجع التأييد في استطلاعات الرأي الأخيرة)؛ لذلك يدرك نتنياهو أن الائتلاف الحكومي سوف يستمر في حال تم عقد صفقة في غزة. كما أن هذه الحكومة تُعدّ فرصة لا تعوّض بالنسبة إلى اليمين المتطرف، من أجل تحقيق أهداف استعمارية في قطاع غزة والضفة الغربية تمهيداً لضم الضفة، وخصوصاً مع عودة ترامب.
وفي حال سقطت الحكومة، فإن حزب الليكود سوف يحافظ على موقعه إلى حد كبير (في حال حل الكنيست وإجراء انتخابات مبكرة)، وقد يستطيع تشكيل حكومة جديدة عن طريق الانفتاح أكثر على التيار «اليميني الوسطي»، أو قد تكون لدى نتنياهو القدرة على دفع بعض الشخصيات في أحزاب «اليمين الوسط» من أجل الانشقاق والانضمام إلى جبهة نتنياهو (تكرار نموذج جدعون ساعر)، أو قد تكون مرحلة نهايته السياسية قد حانت، وخصوصاً مع استمرار محاكمته بتهم الفساد، وبانتظار محاسبته وحكومته بتهمة الفشل في توقّع عملية «طوفان الأقصى» والإعداد لها.
ختاماً، قد نكون على موعد مع الإعلان عن إتمام صفقة التبادل ووقف الحرب في غزة، في الساعات أو الأيام القادمة، لكن من الضرورة الإشارة إلى أن صمود المقاومة في قطاع غزة وصمود الشعب الفلسطيني هناك، كما في الضفة الغربية، أفشل مخططات إسرائيل التهجيرية، وكتب الشعب الفلسطيني فصلاً جديداً من فصول الصمود والمقاومة؛ رغم التضحيات الكبيرة والخسائر في الأرواح والممتلكات والإبادة الجماعية السكانية والمكانية.