عندما أزهر الصمود أسطورة!

تاريخ الإضافة الجمعة 31 كانون الثاني 2025 - 9:56 ص    التعليقات 0     القسم تدوينات

        


علي ابراهيم

 باحث في مؤسسة القدس الدولية

لم تعد الأحداث العظيمة الجليلة بعيدةً عنا، إذ نعيش في زمن تتكثف فيه الأحداث، وتتسارع فيها التطورات، ولا تكاد تمر الأشهر، بل الأيام من دون حدثٍ جليل، فقد أصبحنا في زمنٍ تتبدل فيه أحوال الدول، وتنقلب فيه المعادلات رأسًا على عقب، ونشهد إرهاصات تغييرات في خرائط اقتربت من مئة عامٍ من دون تغيير.

 

وها هو “طوفان الأقصى” قد أشعل في شرقنا سلسلة من التغيرات العظيمة، فتتالت الأحداث من السابع من أكتوبر، ولم يكد يمر يومٌ من دون صور التضحية والبذل، ومشاهد الفخر والانتصار، فكل صورة رأيناها، وكل شهيدٍ تعرفنا عليه، وكل طفلٍ ذرف من الدموع ما ذرف، وكل طلقة أطلقها الأبطال الأشاوس، رسخت فينا أمورًا عظيمة جليلة، فها هو الزمن يدور مرة أُخرى، فقد مددنا الأشرعة مع الطوفان، وستبقى تلك السفن تنتظر اللقاء مع تلك الأرض، مهما كان أولياء الدم في صحراء ذرعها المخذّلون بألوان الندم والأوبات المتأخرة.

 

وفي هذه الفقرات القادمة، مشاعرٌ غير منتظمة، ولكنها نسجت في سيل هذه المشاهد الاستثنائية، وبعضها احتفظت به عامًا ونيف، وها أنا أذرفها على مداد الكتابة والقلم، بعد ذلك النذر من الصمت، أحدثكم عن الصمود الذي أصبح أسطورة.

 

-1-

عن أعزّ أهل الأرض

 

لا تكاد تجد امرءًا في قطاع غزة، إلا وقد فقد قريبًا أو عزيزًا، وفقد من ماله وصحته وأساسات حياته الكثير، ولكن الصور التي تتقاطر بعد توقف المعركة وسريان وقف إطلاق النار، تؤكد أن هذا الشعب الذي ذاق ما ذاقه من ألم وجوع وبرد وضنك وشدّة، وخذلان، لم يفقد تمسكه بهذه المقاومة الأبيّة، وبعزة نفسه وأنفته، وإنهم والله بالتفافهم حول المجاهدين الميامين لأعزّ أهل الأرض، وأكثرهم أنفة، وعزةً وطمأنينة.

 

نعم كنا جميعًا نعرف أهل غزة، وحجم التفافهم حول المقاومين، ولكن المقاطع مفاجئة، فالمعارك لم تضع رحاها إلا من سويعاتٍ قليلة، وما زال العدو يحاول الفتك بأي وجه مقنع، ليُثبت لنفسه أنه قادرٌ، ولكن الغزيّين لهم رأي آخر، يقولون للعالم أن أبنائنا الأبطال نبت هذي الأرض، ما زالوا مرتبطين برحمها، خرجوا منها وصالوا العدو الجحيم، وعادوا منها إما مظفرين أو شهداء، هم أبناء غزة، لعبوا في الحارات، وتعلموا في المساجد، لهم وشائج قربى ومودة مع كل غزيّ، فلم يهبطوا من أرضٍ بعيدة، أو قدموا من كوكبٍ آخر، هم الأبناء والأخوة، والأصدقاء والأحباب، والعزوة، فكانت هذه المشاهد الاستثنائية، وكأن الغزيّ عندما يُحيّي المقاوم فلا يقصده بذاته وهو لا يعرفه أسفل لثامه، ولكنه يرمز به إلى كل مجاهدٍ من أهله وصحبه ولداته، إلى كل شهيد سمع أنه ارتقى ولم يُعرف له قبر.

 

وبالنسبة للغزيين، لم يكن ظهورهم العلنيّ غريبًا، وهم من كانوا يمخرون عباب الدمار ليلقنوا المحتلّ الدرس بعد الآخر، ولكن الاحتضان الشعبيّ الهائل، والطوفان البشريّ الذي التف حولهم في بداية وقف إطلاق النار، وعند تسليم الأسيرات الثلاث، أسقط كل ادعاءات حاول البعض ترويجها على مدى أيام المعركة، وخلال أتون الحرب، نعم كل غزيّ قد شهد معاناة غير مسبوقة، وعانى معاناة لا قبل للبشر فيها، ولديهم من أحمال المشاكل والآلام ما يكفيهم دهورًا، ولكنه الفلسطينيّ المتمسك بالأرض المنافح عنها.

 

-2-

عمن نعرف ولا نعرف…

 

تشغلني فكرة أولئك الكرام البررة، الذين يخوضون معارك بطولية في وجه المحتل وآلته الهمجية، عن نماذج نادرة من التضحية والكرامة والفداء، وفوق كل ذلك، إثخانهم في العدو، وتكبيد الأخير خسائر ما عهدها من قبل، وقد اعترف محللوه وقادته السابقين بأن جنود الاحتلال يواجهون مقاتلًا فلسطينيًا عنيدًا، وهو نموذج فريد، مزج بين العمل والعلم والفهم والشجاعة والبطولة والتوكل، كأنهم من زمانٍ آخر، وليسوا من زماننا هذا.

 

نعرفهم من خاتا آثارهم، فهنا ما بقي من دبابة، وهناك خوذة جندي قنصه الأحبة في وسط رأسه، وهناك آثار آليات أخرى، وقبلها مئات المقاطع الأسطورية، التي تقف أمامها وأنت منعقد اللسان، وقلبك يخفق بشدة، ففي كل عملية من الكرامات ما لا يُحصى، ولعمري فكأن شجاعة أهل الأرض قد جمعت بهم.

 

ومع انتهاء المعركة بدأ الإعلان عن قوافل شهداء المعارك، وعن القادة الغرّ الميامين، وكأن الوقت قد حان للبكاء عليهم، وذرف الدموع عن فقد هذه القامات الباسقة، لم نكن نعرفهم إلا من خلال ما يحققونه من ضرب هذا المحتلّ المأفون، نعرفهم بقبضاتهم المتماسكة، ووقفاتهم الشامخة، وهم يضربون الياسين ولا يهتزّ لهم جفن، نعرف منهم كلمةً قيلت هنا أو هناك، سمعنا صوت الذي صرخ “ولعت”، ونداء الآخر بأنها لعيون الشيخ صالح، والثالث الذي كبّر، ورابعا يريد الدبابة ويترك الجرافة، ونعرف منهم فوق ذلك بسالة نادرة ومنافسة على الشهادة، وسجدة في مواجهة المسيرة، وابتسامة مضرجة بالدماء، كانوا كدمعة رقراقة على وجنة طفل، أو كزهرة برية ريّانة نبتت بين أنقاض الحصار، وعلى الرغم من كل ذلك إلا أننا لم نعرفهم حق المعرفة، وما ضرهم ذلك، فقد شهدوا امتحناهم ونجحوا فيه، والحسرة عمن رأى الفيصل واختار عنه القعود.

 

-3-

من الياسين إلى السنوار

 

لم يكن ظهور الشهيد أبو إبراهيم السنوار في برنامج “ما خفي أعظم” صامدًا أو مستغربًا، وقد شاهدنا عصاه التي بينت الفرقان بين البطولة والجبن، وبين التضحية والركون، ولكنها مقاطع كأنها من عالمٍ آخر، عالمٌ كاد أن يُنسى تفاصيله وما فيه، من لدن الفاتحين الأوائل، مرورًا بقادة التحرير والجهاد إلى عصرنا الراهن، وكأن السنوار بهندامه وغطاء رأسه ونحوله قد كثف بشخصه كل الصور التي تحتزنها الذاكرة عن أولئك الأبطال، فقد شبهوه تارةً بعمر المختار، وما نُسب إليه: “بأننا قومٌ ننتصر أو نموت”، فكان له الثانية والأولى معًا، وفي تضاعيف جسده النحيل وخطوط وجهه ووجه المقاتل الذي يشبهنا، ونشأ مثلنا، ووقف صلدًا حتى اللحظات الأخيرة، عن عصاه ونظرته، كأنها اختصرت العالم فيها، وكأن هذه المقاومة الباسلة لا تفتأ تترك بين أيدينا الرمزيات، من كرسي الياسين إلى عصا السنوار، تختزل سنواتٍ من العمل الدؤوب فداءً لفلسطين، ودفاعًا عن القدس والأقصى.

 

لا ريب بأنها رزقٌ من الله جلّ لعباده الصالحين، فقد كتب لهم القبول في الأرض، وتعلقت بهم قلوب الملايين من أبناء هذه الأمة، فلا شك بأنها هبة ربانية لمن يَثبُت في زمن المِحن، ويواجه في زمن الخذلان، ويصبر في زمن التضجُّر، ويتقدم في زمن التراجع، ويقول “القدس لنا” في زمن التواطؤ والتطبيع… شهداؤنا في الصف الأول ومن الصف الأول، والمنتصرون على النهج نفسه…أما غيرهم ممن ولغ في التنسيق وكذب وداهن وسالم، سيكونون في قيعان مقززة، تلعنهم الأمة ويلعنهم التاريخ…

 

-4-

إصرار البعض على الهزيمة!

 

لا ريب بأن لهذه المعركة أثمانًا باهظة، وتبعات كبيرة جدًا، ولكنها أيضًا حققت إنجازات لا تخفى، وإن فشل الاحتلال في تحقيقه أهدافه وبقاء المقاومة، وعودة أبناء غزة إلى شمال القطاع مشاهد عظيمة، هي انتصار العين على المخرز، وفشل المخططات الكبرى والاستراتيجيات الغربية، بل هي تمهيد مباشرٌ لما يريده ترامب وبدأ بالترويج له منذ أيام، والضنك الشديد الذي مرّ على أهلنا في القطاع ما استطاع محو مشاهد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فهي بما فيها من مباغتة وعزة أسطورة بحدّ ذاتها، ولا يستطيع الزمان تجاوزها، ولكن البعض يصرّ على محاكمة الفعل واجتزاء قضية بعينها ضمن مساحة زمنية قصيرة، وعلى الرغم من ادعاء الخوف على الناس، إلا أنها محاكمة لخيار المواجهة والتحرير، في تجاوزٍ لما يقوم به الاحتلال منذ 17 عامًا من حصارٍ وقتل بطيء لمئات الآلاف من الفلسطينيين في غزة، ولنحو 77 عامًا من الاحتلال.

 

لا أجرؤ على نفي أهمية النقد مطلقًا، بل وضرورته، ولكني هنا أستعجب من إصرار البعض على وصف ما جرى بأنه هزيمة مطلقة، من دون أيّ مراعاةٍ لأساسيات التفكير المنطقي، أو البحث الرصين، أو أقل جهد في بيان الخسائر والإنجازات، وفي مقابل تنطع هؤلاء، تجد مئات المقاطع من فرح الناس في غزة بهذا النصر، وبهجتهم به رغم الصعوبات والخسائر والفقد المهول، إذ يقولون بالفم الملآن، بأن صمودنا انتصار، وعدم انكسارنا انتصار، وانسحاب العدو انتصار، وعودتنا إلى الشمال انتصار، ومشاهد تسليم الأسرى انتصارٌ من نوعٍ آخر، في مجال الإعلام والرسائل الظاهرة أو المضمرة وغيرها.

 

ختامًا، لقد انتهت هذه المعركة، لكن الحرب برمتها لم تنته، طالما هناك احتلالٌ جاثم في أي شبرٍ عربيّ، وها نحن أمام صفقاتٍ جديدة، ومشاريع تنسجها الأيدي الغادرة في ردهات قصور الحكم ومن وراء الحُجب، لقد شاهدنا الصمود، وكنا الشهداء على هذه الأسطورة، ولكن الأساطير لا تظلّ منفردة من دون الدعم والتثبيت، وإلا نكون نسلمهم إلى أتون الحريق مرةً أخرى.

 

صحيفة اللواء القطرية 

 

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



السابق

لماذا تصريحات ترامب عن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة؟

التالي

مواقف الرؤساء الأمريكيين من القدس (1 - 2)

مقالات متعلّقة

علي ابراهيم

سيد الظل والميدان

الإثنين 3 شباط 2025 - 12:05 م

منذ أن شاهدت كلمة الملثم المصورة، فكري مشغول بهذه الشخصيات الفريدة التي لا تُشبه غيرَها، ولا يُشبهها أحد، فقد طفقت تتوارد عليّ المعاني والصور والكلمات، منذ أن سمعت نعي الشهيد القائد العام لكتائب القسا… تتمة »

علي ابراهيم

عندما أزهر الصمود أسطورة!

الجمعة 31 كانون الثاني 2025 - 9:56 ص

لم تعد الأحداث العظيمة الجليلة بعيدةً عنا، إذ نعيش في زمن تتكثف فيه الأحداث، وتتسارع فيها التطورات، ولا تكاد تمر الأشهر، بل الأيام من دون حدثٍ جليل، فقد أصبحنا في زمنٍ تتبدل فيه أحوال الدول، وتنقلب في… تتمة »