شرطة الاحتلال لمنظمات المعبد: لماذا تأتون للأقصى بأعدادٍ قليلة؟!
الجمعة 14 نيسان 2023 - 2:54 م 858 0 مقالات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدولية
شهدت السنوات الماضية قفزةً في أعداد مقتحمي المسجد الأقصى من المستوطنين، إذ بلغوا عام 2022 نحو 48 ألف مستوطن بحسب دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، في مقابل نحو 29 ألف عام 2018. لم يأتِ هذا التصاعد نتيجة جهود "منظمات المعبد" فقط، بل أيضاً من خلال تضافر جهود أذرع الاحتلال الأمنيّة والسياسيّة من أجل تكثيف الوجود اليهوديّ في الأقصى ورفع سوية اعتداءاته.
وقد شهدت السنوات الماضية تحولاتٍ في أدوار شرطة الاحتلال، التي انتقلت من تأمين الحماية العامة للمستوطنين مع تقييد جولاتهم في ساحات الأقصى، ومنعهم من أداء طقوسٍ يهوديّة علنيّة، إلى أن أصبحت -في الأعوام الأخيرة- أداةً فاعلةً في تثبيت حضور المستوطنين داخل الأقصى، وتأمين أدائهم للصلوات اليهوديّة خاصّةً في الجهة الشرقيّة من المسجد، إلى أن وصل الأمر حدّ مشاركة عناصر وضباط الشرطة في هذه الطقوس.
ولم يكن هذا التطوّر محصوراً في تعامل الشرطة المباشر مع المستوطنين في ساحات الأقصى، بل أيضاً في علاقتها مع منظمات المعبد، إذ استطاعت الأخيرة إحداثَ اختراقاتٍ نوعيّة في شكل العلاقة بين الجهتين، وفي حجمها. في هذا المقال سنرصد دور شرطة الاحتلال في تعزيز الاعتداءات الاستيطانيّة على المسجد الأقصى في سياق تطوّر علاقتها مع منظمات المعبد.
وحدة خاصّة وتواجد مكثّف
يتركز عمل شرطة الاحتلال الميداني في الأقصى على عدد من المسارات: تنشر على أبوابه عناصرها وحواجزها الحديدية لتقييد وصول المصلين إليه والتدقيق في هويّاتهم، وتتحصن في مركزها الموجود داخل الأقصى، ومن هناك تنطلق لمراقبة الحركة فيه، كما أنّها تُرافق مجموعات المقتحمين. وخلال تلك "المرافقة"، فإنّها مُكلّفة بتحييد الفلسطينيّين حتى لا يقفوا في وجه المستوطنين، وتستخدم القوّة لفرض ذلك بدءاً بالاعتقال، مروراً بالضرب، وصولاً لإطلاق القنابل والرصاص.
وقد كان عناصر الشرطة المُكلّفون بالسير اليومي في داخله وبالانتشار على أبوابه حتى عام 2017 تابعين لـ "وحدة الأماكن المقدسة"، وهي المُكلّفة أيضاً بالتواجد أمام حائط البراق وأبواب كنائس القدس. على أثر هبّة باب الأسباط 2017، أعلن وزير الأمن الداخليّ حينها جلعاد أردان عن إنشاء وحدةٍ جديدةٍ في الشرطة، يتركز عملها داخل المسجد وفي محيطه، أُطلق عليها "وحدة جبل المعبد".
ضمّت الوحدة عند تشكيلها 200 عنصرٍ، من بينهم 100 عنصر جديد جُنّدوا بشكلٍ خاص. كما ضمّت قوات الدورية والتدخل إلى جانب الاستخبارات، وبحسب وسائل إعلام إسرائيليّة زُوِّدَت الوحدة الجديدة "بوسائل استخبارية، وتكنولوجية متقدمة للحفاظ على الأمن في المعبد".
عدا عن الأبواب، فإنّ شرطة الاحتلال تنتشر في عدة مواقع داخل الأقصى أو قريبة منه. وأبرزها المدرسة التنكزية، التي تقع على السور الغربي للمسجد الأقصى فوق باب السلسلة، وتشرف على ساحاته1، وقد سيطر عليها الاحتلال عام 1969 وحوّلها إلى مركز أمنيّ. تستخدم شرطة الاحتلال سطح المدرسة لمراقبة المرابطين في المسجد وتصويرهم، ويستخدمها قناصة حرس الحدود والقوات الخاصة لإطلاق الرصاص صوب المصلين، خلال اندلاع المواجهات في الأقصى، بالتزامن مع اندلاع المواجهات في باحاته.
أما داخل المسجد تتخذ شرطة الاحتلال الخلوتيْن الجنبلاطية وأرسلان باشا المتلاصقتين مركزاً لها. يقع هذان المبنيان شمال صحن قبّة الصخرة، وقد أُقيم فيهما أول مخفرٍ شرطي إبان الاحتلال البريطاني للقدس، وبقي كذلك في العهد الأردني، ومع الاحتلال الإسرائيلي للقدس ادعت سلطات الاحتلال أن وجود النقطة الشرطية جزءٌ من "الوضع القائم". وفي الأعوام الماضية استهدف الشبان هذه النقطة أكثر من مرة، واستطاعوا إحراقها في عامي 2014 و2019.
من المهم هنا التنبيه إلى أن هذه الوحدة لا تتمكن لوحدها من "تأمين" الاقتحامات الكبيرة، لذلك فإنّها تستعين حينها بمختلف العناصر الأمنيّة من الشرطة وحرس الحدود والقوات الخاصّة.
الشرطة و"الشعب" يد واحدة..
تتبادل شرطة الاحتلال الأدوار مع منظمات المعبد، فبينما تعمل الأخيرة على على حشد المقتحمين ورفع سقف مطالبها من مستويات الاحتلال القانونية والأمنية والسياسية، فإنّ الشرطة تُنفّذ هذه المطالبات من خلال فائض القوّة الذي تمتلكه. وفيما يتصل بهذا السياق، نرصد عدداً من المحطات التي تعاونت فيها "جماعات المعبد" مع مستويات الاحتلال المختلفة لفرض تغييرات مباشرة تتصل بتهويد الأقصى، وكانت الشرطة هي الأداة المباشرة لتمرير هذه التغييرات.
منذ عام 2015 وحتى اليوم، شهدت اقتحامات الأقصى في عيد "العرش" اليهودي سعي شرطة الاحتلال لفرض التقسيم الزمانيّ، عبر إغلاق الأقصى وإفراغِهِ من المسلمين بالقوّة. مثلاً في اليوم الأول من ذلك العيد، 27 أيلول/سبتمبر 2015، أغلقت شرطة الاحتلال 5 من أبواب المسجد في وجه المسلمين، واقتحمته بشكلٍ وحشي. وقد تكرر هذا الاقتحام في الأيام التالية للعيد وكان الهدف المباشر له إفراغ المسجد من المسلمين، من خلال استهدافهم بالرصاص والقنابل.
وفي العام 2019، في صباح اليوم الأول من عيد الأضحى، أفرغت شرطة الاحتلال الناس من ساحات المسجد باستخدام الرصاص والقنابل، ومنعت بقائهم فيه بعد انتهاء صلاة العيد، تمهيداً لإفراغه لصالح اقتحام المستوطنين. وهنا نلحظ كيف غيّرت شرطة الاحتلال ما كان "مستقراً" لسنوات، وهو أن لا اقتحامات يهوديّة في أعياد المسلمين، فتماشت مع مخططات جماعات المعبد وأتاحت لهم الاقتحام في يوم عيد للمسلمين.
وكذلك الأمر في 28 رمضان من العام 2021، فمن المعروف أنّ الاقتحامات اليهودية - عادةً - ما تتوقف في العشر الأواخر من رمضان، ولكن شرطة الاحتلال صعدت من سياستها في أن تجعل للأعياد اليهودية أولويّة على الأعياد والمناسبات الإسلامية، فرغم أنّه من أيام العشر الأواخر فقد أعلنت عن السماح بالاقتحام في ذلك اليوم لتزامنه مع احتفال الاحتلال بما يُسمى "يوم القدس"، لكن أعداد المعتكفين وتجهزهم أفشل ذلك، ومن ثم اشتعلت هبّة فلسطينيّة شاملة.
مستوطن بزيّ شرطي: تعالَ نؤثر من الداخل!
من أجل تمرير رؤيتها في قلب الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية، تعمل "منظمات المعبد" على ثلاثة مستويات. أولها مستوى التأثير السياسي على وزير الأمن الداخلي وقيادات الشرطة3، واستخدمت في ذلك أسلوبين رئيسيين، الأول: نشر مقاطع فيديو تحمل "مظاهر عاطفية" مفادها بأن هناك تعاون وتفاهم بين المقتحمين والشرطة، وأنّ الأخيرة ترحب بهم وتؤمن لهم الحماية أدت إلى مشاركة المزيد من المستوطنين في اقتحام الأقصى. والثاني اللقاءات المشتركة فيما بين الشرطة الإسرائيلية وجماعات "المعبد"، وكانت هذه الاجتماعات ضمن فريق توجيه مشترك، يجمع ممثلين عن الشرطة وعن "منظمات المعبد"، وأشارت المصادر الإسرائيلية أن الفريق استطاع التأثير المباشر على أرض الواقع وفي غضون أشهرٍ قليلة.
أما عن العلاقة المباشرة مع موقع وزير الأمن، تُشير المعطيات إلى امتلاك "منظمات المعبد" علاقات جيدة مع الوزير تساحي هنغبي (2003-2004) الذي أقنعته بأطروحاتها، وهو أول وزيرٍ للأمن يشارك في اقتحامات الأقصى في تشرين الأول/ أكتوبر 2003، واستمرت هذه العلاقة مع الوزير آفي ديختر (2006-2009)، ومن ثم إسحاق أهرونوفيتش (2009-2015)، الذي دعا إلى السماح لليهود بأداء طقوسهم داخل الأقصى.
ويُعد جلعاد إردان (2015-2020) واحداً من أقرب الوزراء إلى "منظمات المعبد"، وشهد عهده أبرز المحطات التي طبّقت فيها شرطة الاحتلال أجندات تلك المنظمات، وقد دعا في أكثر من مناسبة إلى "حريّة صلاة اليهود" في الأقصى. ومن أمثلة تفاعله مع أطروحات منظمات المعبد مشاركته في مؤتمر في "الكنيست" في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، نظّمه "لوبي تعزيز الرباط اليهودي بجبل المعبد"، وقد صرّح حينها بأن "إسرائيل قد تخلت عن سيادتها على أقدس مكان لدى اليهود"، مضيفاً أنّه "يجب أن يكون المكان الأكثر قدسية بالنسبة إلى الشعب اليهودي متاحاً لليهود".
ومن الأمور اللافتة في تلك الفترة ما صرّح به أساف فريد الناطق باسم "ائتلاف جماعات المعبد" في أواخر عام 2018 حول التغييرات الكبيرة التي حققها أردان ومن بينها تعينه يورام هليفي قائداً للشرطة في القدس4، وقد وصفته الصحافة الإسرائيلية حينها أنه "أكثر دعماً، وتقبلاً للوجود اليهودي في جبل المعبد". وبحسب تعبير فريد "أخذ – هليفي- على عاتقه السماح لأيّ يهودي يريد الدخول إلى جبل المعبد بأن يفعل".
ومن دلائل التغييرات في سلوك الشرطة، ما قاله يهودا غليك عندما كان عضوًا في "الكنيست" فقد صرّح بأن الشرطة الإسرائيلية والشاباك تشجعان المستوطنين على اقتحام المسجد، وكشف غليك أن يورام هليفي من يشجعه على مواصلة اقتحام الأقصى، وأكّد أنه قال لهم في أكثر من مرّة: "أحضروا المزيد، نحن بحاجة للمزيد، لماذا تأتون بأعداد قليلة جداً؟".
ويتوج مسار التقارب مع موقع الوزير بوصول إيتمار بن غفير (2022-..) أحد أبرز الوجوه السياسية الداعمة لهذه المنظمات كما كان أبرز أعضاء "الكنيست" الداعمين لفكرة "المعبد"، وافتتح عهده في الوزارة باقتحام المسجد الأقصى مطلع كانون الثاني 2023، وإصدار العديد من القرارات بحق القدس والمقدسيين.
الضغط بشكل مستمر.. فإنّه يُثمر!
أما المستوى الثاني فيتمثل بالمطالبات المتكررة برفع سقف الاعتداء على المسجد، إن كان من حيث أوقات الاقتحام، أو ما تتضمنه هذه الاقتحامات من طقوسٍ وصلوات. ومن الشواهد على ذلك رسالة من المحامي أفيعاد ويسلي، باسم عددٍ من المنظمات وجّهها إلى وزير الأمن الداخلي حينها جلعاد أردان، طالب فيهما بالسماح لليهود بإقامة صلواتهم في يوم "عيد الكيبور-الغفران" في الأقصى. وقال المحامي: "إنّ هناك جمهوراً واسعاً من اليهود ينوون صعود جبل المعبد، بالتزامن مع العيد، وإقامة صلواتهم واحتفالاتهم الخاصة في هذا العيد، ونحن نطلب من الحكومة السماح بذلك".
وفي أواخر عام 2016 وجه رئيس حركة "العودة إلى الجبل" المتطرف رفائيل موريس، رسالةً إلى أردان طالبه خلالها بزيادة ساعة على وقت اقتحام الأقصى، وأشار بأن تمديد الاقتحامات "يصب في مصلحة الشعب اليهوديّ".
ومن أواخر تلك الرسائل، الرسالة التي أرسلها المحامي أفيعاد فيسولي مطلع العام الجاري إلى المفتش العام لشرطة الاحتلال يعقوب شبتاي، وقائد شرطة الاحتلال في القدس دورون ترجمان، وتضمنت عدداً من مطالب منظمات المعبد، من أبرزها تمديد ساعات اقتحام الأقصى، والسماح للمستوطنين بأداء الطقوس العلنية، إضافةً إلى فتح المجال أمام الاقتحامات يومي الجمعة والسبت، وتحديد موقع لكنيسٍ يهوديّ.
وثالث هذه السياقات هو الاختراق المباشر لعناصر الشرطة، وقد كشفت العديد من الاقتحامات مشاركة عناصر في شرطة الاحتلال بالصلوات اليهودية داخل المسجد. ومن أبرز هذه الاختراقات ما ظهر عندما دعت منظمات المعبد أنصارها في نهاية عام 2019 إلى التقدم لشغل عددٍ من الوظائف التي أعلنت عنها شرطة الاحتلال، وهي خاصة بـ"مستكشفين" مساعدينلعناصر الشرطة داخل الأقصى. تقتضي مهمة هؤلاء مرافقة المقتحمين والسياح، وتولي مهمة الإرشاد السياحي (الذي يحمل مضامين دينية)، على أن يدخل "المستكشفون" إلى الخدمة في شهر آذار/مارس 2020، وهي خطوة تُظهر محاولاتهم تحقيق المزيد من الوجود الفعلي في جهاز الشرطة إلى جانب التواصل والمطالبات العامة.
ومما يُدلّل على الأثر الكبير الذي حقّقته منظمات المعبد إنْ من حيث التواصل المباشر أو المطالبات المتكررة من شرطة الاحتلال، رسالة أرسلها "ائتلاف منظمات المعبد" مطلع عام 2018 إلى شرطة الاحتلال تشكرها على دورها في فتح المجال أمام المزيد من اليهود لاقتحام الأقصى، ووصول عدد المقتحمين سنويّاً إلى نحو 30 ألف مستوطن.
وفي السياق نفسه، شكّل اقتحام الأقصى بالتزامن مع ذكرى احتلال الشطر الشرقي من القدس في 13 أيار/ مايو 2018، مثالاً مهماً لتطور سلوك الشرطة، فقد أشادت في حينه وسائل إعلام إسرائيلية مقرّبة من منظمات المعبد بالدور الذي قامت به الشرطة بقيادة يورام هليفي، ووصفت مشاركة أكثر من ألفي مستوطن في اقتحام الأقصى حينها بأنه حدثٌ تاريخي، ولم يحصل منذ "ألف عام".5 وفي تقرير لقناة "كان" الإسرائيلية أشير إلى النهج الذي أرساه هليفي في تعاطي الشرطة مع مقتحمي الأقصى، والذي يتخلص بإعادة "السيادة الإسرائيلية على جبل المعبد".
أخيرًا، تشكل هذه المعطيات صورةً لجزء من حجم التعاون والتنسيق بين مختلف أذرع الاحتلال ومستوياته، وهو تعاونٌ يتصاعد عاماً بعد آخر، ولكنه وعلى الرغم مما حققه من إنجازات إلا أنها تسقط أمام أول فعلٍ جماهيري من قبل الفلسطينيين في القدس، وشواهده كثيرة متتالية لا تحتاج تكرار، إنما الحاجة الفعلية بلورة الفعل الجمعي ليكون متصلاً بمحطات التصعيد، وقادراً على بناء الفعل المقاوم، فقد أثبتت التجارب المختلفة أن كل فعل جماهيري حاشد في القدس أجبر الاحتلال على التراجع، ما يجعل المراكمة فعلًا ضروريًا. مع ضرورة ألّا تتحول الهبات إلى أفعالٍ آنية وكأنها نفثات مكمود، فتقوم على أثر انتهائها قوات الاحتلال بالالتفاف على الإنجاز، وتعود مشاهد الاقتحام وأداء الصلوات وقمع المرابطين لتتصدر مشهدية الحدث في المدينة المحتلة.
متراس - 6/4/2023