طوفان الأقصى.. وتعرية المثقف الهلاميّ
الإثنين 20 تشرين الثاني 2023 - 9:04 م 799 0 تدوينات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدوليةفي محاولة لاستقراء أنساق التفاعل مع معركة "طوفان الأقصى" في وسائل التواصل الاجتماعي، وما لحقها من تطورات، لفت نظري أكثر من سياق للتفاعل مع ما يجري في قطاع غزة، فمنهم المتصهين الذي يشيطن المقاومة ويطعن بها، ومنهم المثبّط الذي لا يقرأ في المشهد إلا لغة الأرقام والمقارنات الصرفة بين القوى المختلفة، ومنهم الحماسي الذي تدفعه حماسته إلى استنتاجات وآراء بعيدة، تتعارض مع بديهيات قراءة الواقع إلى غيرها من سياقات التفاعل، ولكن أكثر المنشورات التي تلفت نظري، وأجد أنها جديرة بالقراءة والتأمل، ليس لأهمية ما تطرحه ولكن لأنها انعكاسٌ عميق لروح القعود والدعة لدى تيارٍ في هذه الأمة، ربما يكون المثقفون عصبهم الأساسي.
فمع الإياب إلى فلسطين والعودة إلى ترسيخ أهمية الفعل المقاوم منذ العبور الكبير في السابع من أكتوبر، تشرين الأول الماضي، هناك من يرى هذه العودة غير ممكنة، وأنها وإن لم تكن عبثية كفعلٍ عسكري مجرد، فإن مآلاتها غير محسوبة، فتارة تجد من يتحدث بأن هذه السرديات قد انتهت، وإن لم يصرح بالسردية التي يتحدث عنها، ولكن روح الطرح يتناول المواجهة والتحرير، ويشبّه الأطروحات التي تنتشر اليوم بأنها تشبه ما كان سائدًا في الثمانينات، وأن إصرار بعض الأنظمة البائدة عليها، تُظهر تهافتها، وأنها وقوفٌ في تيار الزمن، وعودة إلى ماضٍ لا يُمكن أن يعود، وطورًا يتحدث بلسان المشفق على الآمنين، وأن آثار الطوفان على المدنيين كانت كارثية، في تجاوزٍ لما يقوم به الاحتلال منذ 17 عامًا من حصارٍ وقتل بطيء لمئات الآلاف من الفلسطينيين في غزة.
لست معنيًا هنا بتناول أطروحات البعض بعينه، ولكنه سياق عام من محاولات إفراغ ما جرى في السابع من أكتوبر، تشرين الأول من أهميته، وما استطاع تغييره في البيئة الاستراتيجية لمواجهة المحتلّ، وحالة الاستنهاض التي كادت تغيب في العقد الأخير، وتخرج علينا هذه الآراء التي تحاول أن تتصف بالموضوعية والرزانة، والمعركة ما زالت محتدمة، وما استطاع الاحتلال تحقيق نصرٍ صغيرٍ فضلًا عن أن يكون ساحقًا، بينما المقاومة تستبسل في تكبيد جيش العدو خسائر فادحة، لم يستطع إخفاءها على الرغم من كل التكتم الذي يحيط بعمليات التوغل البري، وأهلنا الكرام في القطاع يعلمون العالم الصبر وهم في شدة وحصار يلاحقهم الموت أينما حلوا.
ويمكننا أن نقول: إن موقف الكثير من "المثقفين" في الأحداث هو موقف إشكاليّ، إنْ في محاولتهم تقديم قراءة "موضوعية" غير "متحيزة"، أو في محاولة تقديم البعض حلولًا تُخالف المنطق وسيرورة الصراع، فقد مرَّ معي منشورٌ لأحدهم يرى فيه بأن انتقال الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء يشكل حلًا مهمًا في الوقت الحالي، وهو تجاوزٌ -ربما يكون متعمدًا-، لجملة الأدلة التي أكدت بأن مشروع التهجير خطة مبيتة، وأن استكمال حلقات التطبيع العربي مع الاحتلال كانت الحلقة الأخيرة قبل القضاء المبرم على المقاومة الفلسطينية وحاضنتها الكبرى في غزة، وهي تغييرات لا يُراد منها إنهاء المـقاومة فقط، بل إحداث أكبر تغييرٍ في المنطقة منذ قيام دولة الاحتلال، فمن لم يدرك أننا في طور هذه التغييرات الكبرى، فهو خارج السياق ولو التهم كل كتب الدنيا، وإن التضامن مع غزة طرقه كثيرة ولكنها لا تمر بالتشكيك بجدوى الفعل المقـاوم، بعد سنوات من عبثية مسار السلام والقائمين عليه.
ليست المشكلة في بعض مثقفينا فقط، بل في المنظومة الفكرية التي تنتج أمثال هؤلاء، والتي تدجن من يدخل بها، فتُخرج مثقفًا يعرف من فلسفات الدنيا ومدارس الأفكار ما يعرف، ولكنه منعزل عن حقيقة الصراع مع الاحتلال، وهو ما يستوجب البناء على نموذج المقاطعة الحالي، ليشمل مقاطعة كل ما يقدمه الغرب من رواية ومعرفة، ولا أقصد هاهنا المعرفة العلمية المجردة ومنجزات التقنية والتطور الماديّ، ولكنني أقصد البنية التراكمية والمعرفية التي تنتج "مثقفين" هلاميين، تنزعهم من إنسانيتهم، قبل جذورهم الشرقية، وحاضر شعوبهم، ويطرحون خطابًا سائلًا، لا لون له ولا طعم، وقبل كل شيء لا انحياز فيه للحق والحقيقة.