فقدٌ أوسع من العبارة
الخميس 1 آب 2024 - 10:55 ص 398 0 مقالات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدوليةأعادتني الذاكرة إلى صباح الثاني والعشرين من شهر آذار/مارس عام 2004، كان صباحًا باردًا، يدب الربيع فيه رويدًا رويدًا، وقد اعتدنا حينها أن يوصلنا الوالد الكريم الى أقرب ما يُمكن إلى المدرسة، ومن ثم نستكمل الطريق مشيًا، وفي ذلك الزمن لم تكن وسائل التواصل والاتصال كما عليه الحال اليوم، فقد كانت النشرة الإذاعية الصباحية إطلالة على التطورات والمستجدات، وقد هالني صوت المذيع، عندما قرأ خبرًا صادمًا، بأن "إسرائيل اغتالت الشيخ أحمد ياسين في غزة" ولكني يومها لم أتماك نفسي، وقد سمعت خبر اغتيال الشيخ المجاهد القعيد أحمد ياسين بعد خروجه من صلاة الفجر، غصّ الحلق وما تمالكت نفسي، وجرت دموعي سحساحة ندية، وازدحمت الأسئلة في رأس ذلك الفتى، لماذا يغتالونه وهو على كرسيه المتحرك، ما هو الخطر الذي سيسببه لهم، وبقيت كذلك متوجمًا كئيبًا، ومع العودة إلى البيت ورؤية ما بقي من كرسي الشيخ، كان الغضب والحزن يستبدان بي أيما استبداد.
وقد تكاثفت في نفسي الأسئلة كرة أخرى، عندما استيقظت صباح اليوم، لأجد خبر اغتيال المجاهد اسماعيل هنية قد ملأ كل منصة وقناة، شعرت بذلك الضيق نفسه، ولم تحضر الأسئلة ذاتها، فقد عرف المرء ما غاب عنه حينها، عن إجرام الجلاوزة وخوفهم من كل حرّ، عن توحش المحتل ومن خلفه كل مستعمر، عن تغولٍ مدعوم من كل قوة مهيمنة في هذا العالم، عن آلاف الشهداء الذين يرتقون في هذا الدرب الطويل، عن التضحيات الجليلة في طريق التحرير، عن الثلة المباركة التي ترتقي في أتون هذه المعركة.
لم تنعقد المقارنة، ولم تهج الذكريات من الذات فقط، بل لعلاقة الشهيدين الياسين وهنية، فكثير من صور الشهيد الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، كان الشهيد هنية، فقد كان مدير مكتبه، وأحد أقرب الناس إليه، وهي سلسلة ذهبية من القادة الأجلاء، ولا حاجة لكيل المديح للشهيد، فصدق مآله هي أعظم ما يُمكن أن يمدح به، لم يكن بعيدًا عن أهله ونبض الناس في غزة، وفي الشتات، فقد قدم عشرات من الشهداء، من بينهم أبناؤه، وعندما أتاه الخبر، وقف صابرًا في صورة تستكمل مشهد البطولة ذلك، ولا يحق لي أن أقارنه بغيره، فالشهيد في علياء لا يقارن بها، خاصة مع أولئك الذين يضيعون الحقوق ويفرطون بالأرض، ويتحولون إلى ذنب للمحتل، همهم اعتقال مقاوم ووقف مسيرة، وكأن هذا المقطع من النشيد القديم، الذي كنا نردده صغارًا، قد كتب في الشهيد هنية ومقارنته بغيره من الأقزام:
اختارك المولى لأنك طاهرٌ ... ولأن غيرك في النجاسة عربد
يقول الكاتب الكبير وليد سيف "إن فاجعة الفقد أوسع من العبارة"، فكيف بنا متحدثين عن أناسٍ لهم هذا الأثر العظيم، وذلك الحضور المهيب، ممن أسهم في تكويننا، وحجزوا لأنفسهم حيزًا في ذاكرتنا... لقد ارتقى المجاهد الكبير، وهو يُبصر طريقه، ويعرف أن الشهادة ثمنها عظيم، ولكنهم ارتضوا المنية لئلا يعطوا الدنية، كان آخر مكانٍ جمعني بالشهيد في عزاء الشيخ الزنداني رحمه الله، وقد كان الأمن يحفه من كل جانب، وعلى الرغم من المخاطر المتربصة به، لم يغب عن عزاء الشيخ، وتحدث عنه وعن دوره، وعلاقته بالحركة، وتحدث عن واقع المواجهة في غزة، فقلت حينها سبحان الله، أي مكانة عظيمة تُعطى للمجاهد، وأي مقام يبلغه، فكل العيون تشرئب إليه، وكل الآذان تتوثب لسماعه، وكل يد تشق الجموع لتصافحه، هي لا تصافحه لشخصه فقط، هي تتلمس آلاف القادة والمجاهدين، عن الأكف التي تضرب الياسين، وتزع الشواظ، وتبيد العدى بالغول، أكف متوضئة لها في الجهاد سندٌ أصيل، ومتنه لم يكتب منه إلا نصفه، فإنا من أمة "تنتصر أو تموت"، وإنا نشهد على النصف الثاني، والكرام البررة يخطون النصف الأول بمدادٍ قانٍ من الدم.
ليالي الشهادة عبقة بكل معاني الفضيلة والعنفوان، يودع الشهيد هذه الدنيا، بأبهى حلة وأجلّ موقف، يمضون تاركين أثرًا لا يمكن أن ينسى، سيظلون ذكرى على ألسنة السالكين في طريق الجهاد، ويتحولوا إلى ترانيم صوفية في حضرات الجهاد، يتمتم بها العارفون، فالتضحية في سبيله هو التجرد الأسمى، ليكونوا بعدها في جوار رب العزة جلّ في علاه، ومع سيد أصحاب الطريق والعارفين.
نعم إننا نتحسر على فقد هؤلاء العظماء، وننزف أشواقنا لهم، فما هو إلا جزء من الوفاء، ولكنهم نالوا شرفًا عظيمًا، ووسامًا لا مثيل له فقد قال تعالى ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾، وعلى الرغم من ذلك حُق لنا البكاء، بكاء يدفع نحو الثأر للشهيد ولأكثر من أربعين ألف شهيد سقطوا في هذه المعركة، من أبطال هذه الأمة المعطاءة، باعوا الهوان بأغلى ثمن، يحتضنون الردى ولا يهابون المنون، لسان حالهم، لو عدنا لهذه الأرض لبذلنا ما بذلناه ألف مرة وكرة، يجسدون قول الشهيد القائد عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله رافعًا بندقيته وزمجر "هذا هو الطريق"..
بورك السالكون إلى العلياء..
لقد أبصروا الطريق، ولحقوا بالركب، والموعد الجنة..
الجزيرة