القدس قبل احتلالين
الثلاثاء 18 آب 2015 - 10:19 ص 21943 0 مقالات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدوليةالكلام عن الخسارة والفقد صعب لا يستسيغه القلم، ولا يستطيع الإنسان التماهي مع واقعه والانعزال عن مشاعره كالعالم المؤرخ ابن الأثير الذي دفعته الأحداث المهولة بعد اجتياح المغول لديار الإسلام أن يسأل نفسه “فمَن الذي يَسهل عليه أن يَكتُب نَعي الإسلام والمسلمين؟”، ضرب من الكتابة مؤلم فكيف إن كان عن مدينة القدس، تلك المدينة العبقة بالتاريخ والذكريات وما تمثله من قدسية وطهارة دينية ومعنوية وميراث التشوق لها الموروث كابرًا عن كابر بعد سنوات الأسر والابتعاد القسري، كل ذلك يجعل آلام فقدها مضاعفة ويصبح التفاعل مع ذكرياتها القانية أمرًا ليس بالسهل أبدًا.
احتلال المدينة الذي وقع في السادس من شهر حزيران/يونيو من عام 1967 لا يشكل مادة للدراسة التاريخية والاجتماعية، وموازين القوى والتفاعلات الدولية في لحظة دقيقة فقط، بل يدفع لدراسة وافية للأسباب والنتائج وربط ذلك بسياقات تاريخية غائرة في القدم، تفرض نفسها على من يعالج هذا الموضوع.
سيعلق متابع ذو وعي وخبرة هل تقصد أن التاريخ يعيد نفسه من جديد، أجيب أن هذه العمومية الفضفاضة ليست أمرًا واقعًا بحال، ولكن الكثير من الأحداث المرتبطة بالمكان والزمان تدفع لهذا الاتساق في الأحداث، وهذا ما يوضح تشابه التجارب وتكرارها ولو لم تكن بذات التفصيل والصورة والحيثية.
لقد احتلت المدينة لمرتين فصلت بينهما 868 عامًا، الأولى احتلال المدينة على يد الصليبيين في الثالث والعشرين من شهر شعبان عام 492 للهجرة الموافق 15 تموز/يوليو 1099 للميلاد، والثانية احتلالها كاملة بعد دخول شطرها الشرقي على يد الصهاينة في السادس من شهر حزيران/يونيو عام 1967.
أحدث خبر وقوع المدينة تحت نير الاحتلال في كلتا الحالتين وقعًا قاسمًا وصدمة مهولة، فكل من عايش الثانية ومشاعرها يمكن أن يقدّر كيف كان أثر الأولى وصداها في بلاد الشام والعالم الإسلامي أجمع، مدينة القدس بوابة السماء وأرض الأنبياء تختطفها أيدٍ آثمة وتعيث في أرجائها فسادًا وإفسادًا.
من سمات القدس أنها مدينة فوق الطائفية في معانيها الضيقة والعامة، فهي تحتضن قدسية لجميع الأطياف والملل، يحيون في أمن ورعاية تامّين، وكل من حكم المدينة سار على هذا النهج عدا بعض المعتوهين الذين شددوا واسعًا وضيقوا سماحة ترسخت منذ العهدة العمرية وبقيت حتى زمن قريب. هذا الارتياح الديني الذي أصبح سمة للقدس لم يعجب المحتلين وعاثوا في المدينة زهقًا للأرواح وطردًا للآمنين، ومع أن الصهاينة لم يخوضوا بدماء المقدسيين حتى ألجمة دباباتهم، ولكنهم ومنذ ثمانية وأربعين عامًا يمضون في ذلك الذبح البطيء لكل من يسكن المدينة ويجتهدون لجعل المقدسيين غرباء في مدينتهم دخلاء عليها، كانوا مسلمين أم مسيحيين ففي عرف المحتل هما سيان، منع المصلين من الدخول للأقصى أو إبعادهم عنه مددًا محددة وتحويل الكثير من المعالم الإسلامية لكنس قميئة لا تمت لتاريخ المدينة بصلة، كأنهم برابرة أوروبا الذين عاثوا في الأقصى تحريفًا وتدنيسا وحولوا جزءًا منه إسطبلًا لخيولهم ودوابهم.
وفي محاولة لمعاينة واقع الأمة قبيل الاحتلالين، نجد توافقًا عجيبًا وسمات مشتركة، نستطيع من خلالها تشخيص المرض الذي كانت تعاني منه الأمة ولا تزال، حتى تصل لتلك المرحلة من الضعف والهوان، ولا تستطيع التمسك بالقدس ثالث المدن الإسلامية قدسية وأهمية، ظواهر يمكن أن نذكر منها:
– الضعف السياسي العام، فقبيل وقوع الاحتلالين كان العالم العربي والإسلامي يعيش في حالة من غياب الدولة المركزية بمعناها الإسلامي أو القومي، القادرة على مواجهة الخطر المحدق أو تجنبه.
– غياب القيادات الواعية التي تقود جماهير الأمة في مواجهة ما يحاك للقدس من مؤامرات، ولم نقل عدم وجود هذه الشخصيات، فالمصلحون في الحالين موجودون ولكن أدوارهم أو لنقل قدراتهم أقل من الوقوف منفردين في وجه هذه المخططات الكبرى، وهم مجردون من القاعدة الصلبة التي تؤازرهم في الدفاع عن مقدساتنا وقدسنا.
– تفتيت الدول المحيطة بفلسطين والقدس لدول محدودة التأثير والقوة، فإبان الاجتياح الصليبي غدت كل مدينة في بلاد الشام دولة قائمة بذاتها، تتناحر مع جيرانها على فتات المكاسب الضيقة، وبعيد سقوط الدولة العثمانية حرص “الاستخراب” – ما يسمى زورًا بـ الاستعمار- على تفتيت بلاد الشام وإدخاله في صراعات طائفية قومية ما عهدها سابقًا.
– حالة التجهيل المركبة قديمًا، جهل سماحة الاختلاف والتقليد الأعمى ومعارك المذاهب المتناحرة والاستغراق بالتفاصيل وغلبة الوعاظ وقلة العلماء والبعد عن العمل والحركة، والجهل الحداثي من غرق الشعوب المحيطة بفلسطين بحالة مزرية من الفقر، وتركة أواخر عصر الدولة العثمانية وما تركته من محسوبيات ورشى وفساد مستشرٍ، ثم الاستخرابان الفرنسي والبريطاني وما سمي بالدولة الوظيفية التابعة لهذا الغرب المهيمن.
– الابتعاد عن الدين والإغراق في تفاصيل خلافية أصبحت معارك حامية، وتحول الدين من محرك للسمو والنهضة كما كان في عصور الإسلام الأولى، إلى جزء من الحياة متوارث – إلى حدٍ ما لكي لا ندخل في إطار التعميم – يفتقد مطبقوه لكثير من الجوانب الحركية.
هذه الظواهر وغيرها الكثير هي التي دفعت لتلك الحالة من التغيير لإيجاد بيئة صالحة تستطيع كسر هذه القواعد وإبراز جيل جديد من القادة والمصلحين، إضافةً لجعل عامة الناس قادرة على العمل من أجل تحرير أنفسهم مما طرأ عليهم ومن ثم تحرير القدس والمسجد الأقصى المبارك، وهي حتمية ربانية وتاريخية. تشخيص المرض والواقع ليس ترفًا فكريًا في حال من الأحوال بل هي عملية ضرورية لمعالجة هذه الأعراض ومن ثم اجتثاث مكامن الخلل مهما تعاظمت ظواهرها والمقتنعون بها.
والعلاج ليس عملية سهلة بحال، بل يحتاج لتغييرات كبيرة تطال المناهج الدراسية والآليات التعليمية، وتتصل بالحكم والسياسة ومداورة السلطة، ولا تبتعد كثيرًا عن المؤسسات الدينية وصفة العلماء العاملين، عملية ستحتاج وقتًا طويلًا وقد أخذت سابقًا قريبًا من قرن حتى استطاعت الأمة إعادة ترتيب أوراقها ومن ثم الانطلاق لتحرير القدس مع أن محتليها أيقنوا في لحظة ما أنهم لن يخرجوا من أسوارها أبدًا.
كل هذا لنصل لهذه الحتمية التي يعرفها الاحتلال الصهيوني حق المعرفة، أن احتلاله للمدينة طارئ ووجوده فيها سيكون زائلًا لا محالة، وأن بقاءه في القدس رهن لحالة الأمة وما فيها، لذلك نجد حرصه بل وغبطته بالحرائق المحيطة به، فهو مستفيد منها لا محالة، ولكن العبرة أن تعود الأمة لدورها وتمسك زمام المبادرة من جديد وتقلب قواعد الاشتباك مع الاحتلال، وتجعل أحلامه بالتهويد الكامل للقدس والسيطرة عليها وهدم المسجد الأقصى وبناء معبده المزعوم هباءً، أمام قدرات فاعلة وأمة واعية.
يرونه بعيدًا ونراه قريبًا…
المصدر : sasapost