ضياع القدس... بين الإهمال والاستيطان
(إسرائيل) حالياً تنفّذ حملة تهويدية لطمس الهوية العربية الإسلامية للمدينة المقدسة التي مرّت عليها الذكرى الأربعون لاحتلالها قبل أشهر عديدة، وهذه الحملة تشمل العديد من الأمور أولها توسعة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي بدأ منذ عشرات السنين وأصبح هناك اليوم حزام كامل من المستعمرات الاستيطانية يحيط بمدينة القدس المحتلة، وهناك جدار الضم والسلب الذي يفصل المدينة المقدسة تماماً عن محيطها الفلسطيني وعن باقي الأرض الفلسطينية.
ما يجري اليوم في مدينة القدس عامةً والبلدة القديمة خاصة وفي المسجد الأقصى على وجه الخصوص هو مخطط رهيب جداً، عبارة عن مخطط انفاق متشابكة ومتداخلة تحت كافة أحياء البلدة القديمة، وتصل إلى جدران المسجد الأقصى المبارك، خاصةً في الجهتين الجنوبية والغربية منه، بحيث أصبح المسجد مهدّداً بهذه الأنفاق وكما مسألة تقسيم المسجد الأقصى باتت مسألة وقت، كما أصبحت البلدة القديمة مهدّدة بهذه الأنفاق التي تمتدّ للضواحي المجاورة للمسجد الأقصى والقدس مثل حي سلوان الذي تحاول سلطات الاحتلال تكريس هذا الحي أو جزءٍ منه لما يسمى مدينة داود التي تصل بفعل الأنفاق بالبلدة القديمة.
إنّ الأطواق الاستيطانية لا تحيط بها من جميع الجهات، بل أصبحت مقامة في قلب الأحياء العربية وفي قلب البلدة القديمة، وإضافةً لذلك أحاطها الاحتلال بجدار الفصل العنصري، وبما يعزلها ويفصلها تماماً عن محيطها الفلسطيني، جغرافياً وديمغرافياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً وحياتياً، وبذلك حوّل الاحتلال القدس إلى "جيتو" مغلق، وأخذ يمارس بحق سكانها الفلسطينيين كلّ أشكال وأصناف الانتهاكات لحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية.
وتهدف السلطات الصهيونية من هذه الممارسات والخطط إلى تهويد المدينة المقدسة جغرافياً وديموغرافياً، لتطال عمليات التهويد جميع الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والحضارية والتاريخية، وبما يشمل إلغاء الوجود الفلسطيني في القدس أو تقليل نسبة الموجودين منهم داخل المدينة المقدسة وإجبارهم على الهجرة ونزع هويتهم الفلسطينية.
فالطرف الفلسطيني الذي وقّع على اتفاقية أوسلو قَبِل بتأجيل النظر والحديث في قضية القدس ضمن مفاوضات ما عُرِف بقضايا الحلّ النهائي وبالتالي أتاح الفرصة لليهود بفرض وقائع جغرافية وديموغرافية واقتصادية بما يتناسب والمخططات الصهيونية للمدينة. كما أنّ هذا الطرف سلّم بأنّه لا يحقّ للسكان المقدسيين ولحاملي الهوية "الإسرائيلية" قسراً الحصولَ على جواز سفرٍ فلسطيني، كما أنّ اتفاقيات أوسلو كشفت أنّ الطرف الفلسطيني قَبِل أنْ يشارك الفلسطينيّين من سكان القدس في الانتخابات الرئاسية والتشريعية للسلطة الفلسطينية من خلال صناديق البريد "الإسرائيلية"، والفائزون من أعضاء المجلس التشريعي لدائرة القدس، لا يحقّ لهم ممارسة نشاطاتهم ضمن المناطق الفلسطينية المقدسية والواقعة ضمن ما يسمى حدود بلدية القدس "الإسرائيلية".
إنّ اليهود حكومات وأفراداً يدفعون الملايين والمليارات من الدولارات لتعزيز الاستعمار الاستيطاني وتهويد المدينة المقدسة بينما يقف العرب والمسلمون مع شديد الأسف متفرّجين أو يدفعون القليل القليل والفتات من أموالهم مقابل تلك المليارات التي يدفعها اليهود والمستثمرون الصهاينة، فالأموال التي تُقدّم لمدينة القدس من العرب والمسلمين لا تساعد على المحافظة على هذه المدينة المقدسة لتبقى مدينة عربية إسلامية كما لا يساعد على صمود أهلها، فالتعليم والصحة وقطاع الخدمات تحتاج إلى دعمٍ كما أنّ دعم المواطن والأسرة الفلسطينية في مدينة القدس يساعد على دعم صمودهم، فالمحتلّ يفرض على الفلسطينيين في مدينة القدس الضرائب المرتفعة والمتنوعة من أجل ترك محلاتهم وأراضيهم وبيوتهم وفي الوقت نفسه يحرمهم من فرص العمل وينشر بين شباب المدينة المخدّرات لكي يضرب قدرتهم على الصمود.
فحينما نتحدث عن القدس لا نتحدّث عن حجارةٍ فقط، بل عن القدس وحضارتها وآثارها وعن كيفية صمود أبنائها وساكنيها حتى نحافظ على أولى القبلتين ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنّه لا يمكن الحفاظ على حضارة القدس وآثارها ومساجدها دون الحفاظ على أهلها ولا يمكن أنْ يتم ذلك إلا من خلال تقديم كلّ ما نملك لهؤلاء لكي نساعدهم على الصمود والثبات على أرض مدينة القدس، فلا ندع هذه المدينة تضيع بين الإهمال والاستيطان.