خمس عبر مستفادة من هبّة باب الأسباط
الجمعة 20 تموز 2018 - 11:42 ص 6937 0 مقالات |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدوليةلم تكن هبّة باب الأسباط التي نشهد ذكراها السنوية الأولى بالحدث العادي في تاريخ الأقصى والنّضال الشعبي للدّفاع عن المسجد، وهي لم تكن بالأمر الاستثنائي أو غير المألوف في تاريخ الصراع مع الاحتلال، فالمسجد الأقصى كان سببًا في اندلاع هبّات وثورات فلسطينية منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين، وكانت هذه الثورات محطات بارزة في تاريخ مقاومة الاحتلال والتّصدّي له. نجحت هبّة باب الأسباط في إجبار الاحتلال على التراجع عن الإجراءات التي اتّخذها بعد عملية الجبارين التي نفذها في 14/7/2017 ثلاثة فلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948 وأدّت إلى مقتل اثنين من قوات الاحتلال المتمركزين عند باب الأسباط. وقد شملت الإجراءات التهويدية، التي سمّاها الاحتلال إجراءاتٍ أمنية، تركيب بوابات إلكترونية كاشفة للمعادن عند أبواب الأقصى، ومن ثمّ أعمدة لتركيب كاميرات مراقبة عليها محاولًا أن يستعيض بهذه الكاميرات عن البوّابات الإلكترونيّة التي رفضها المقدسيّون قطعًا.
أظهرت الهبّة مشهدًا من الصمود والتماسك والوحدة والوعي انتهى بنصر أرهق الاحتلال وأزعجه، وأثبت إمكانيّة الانتصار عليه في الميدان، عندما يكون الهدف واضحًا وقابلاً للتحقيق. كانت هبّة باب الأسباط معركة في حرب طويلة، ولم يكن ينتظر منها إنهاء الاحتلال بل وضع لبنة جديدة على طريق التّحرير، ومنع الاحتلال من تثبيت أمر واقع جديد، وإدخال تغيير آخر على الوضع القائم في الأقصى. وعلى العموم، ثمّة خمسة دروس يمكن استنتاجها من هبّة باب الأسباط والنّصر الذي تكلّلت به، ويمكن إيجازها في ما يأتي:
أولاً: إمكانية التصدّي للعدوّ وإجباره على التّراجع
الحرب جولات وهي كذلك في القدس والأقصى، فمرة يتقدّم العدو ومرّة يهزم ويتراجع، وفي هبة باب الأسباط كانت معركة البوابات جولة جديدة أظهرت مرة أخرى إمكانية هزيمة العدو، وهو أمر يحاول العدوّ أن يمحوه من الوعي الشعبي المقاوم، وألا يسمح بتكراره. فبين عامي 2006 و2014، شنّت دولة الاحتلال حربًا على لبنان وثلاثة حروب على قطاع غزة، وفي كلّ هذه الحروب كان ميزان القوة العسكرية لمصلحتها وكانت مجهّزة بأقوى الأسلحة وأكثرها فتكًا، ومع ذلك فقد خرجت منها بصورة مهتزّة وتبيّن أنها "أوهن من بيت العنكبوت"، وأنّها ليست عصيّة على كسرها، وتهشيم صورتها، وإلحاق الهزيمة بها. ثمّ جاءت معركة البوابات، لتظهر دولة الاحتلال أكثر هشاشة، لا سيّما أنّ المعركة لم يكن السلاح التقليدي جزءًا منها، بل كانت كلمة الشارع المقدسي مقابلة كلمة الاحتلال وسلاحه.
ثانيًا: أهميّة الوعي الشّعبي بالمعركة والحرب والمطالب والأهداف
لم يكن مطلوبًا من معركة البوّابات أن تكون معركة طرد الاحتلال من الأقصى، بل منعه من تسجيل تقدّم جديد في حربه على القدس، ومنعه من فرض أمر واقع جديد يخلخل به الوضع القائم في الأقصى. وهذا ما وعاه المقدسيون جيّدًا والتزموا به وعملوا عليه: فالمعركة ليست على حرية الدخول إلى الأقصى وأداء الصلاة فيه بل على السيادة على الأقصى والقدس، والمطلب هو إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل 14/7/2017، أي إزالة البوابات الإلكترونية ومن ثمّ وإزالة الكاميرات التي حاول الاحتلال أن يستعيض بها عن البوّابات ليثبت أنّ الأمر له، والهدف هو إعادة تكريس معادلة الردع بالمقاومة. وكان من الواضح أنّ رفع سقف المطالب لن يعود بالفائدة، وقد ينهي المعركة على عدم تحقيق هذه المطالب، الأمر الذي سيبدو خسارة وفشلًا في كسب هذه الجولة. وكانت "واقعيّة" الهدف ووضوح المطالب من العوامل التي ساعدت على حسم المعركة لمصلحة المقدسيّين، وهذا ما يمكن الاستفادة منه في المعارك القائمة والقادمة التي نخوضها ضدّ العدو.
ثالثًا: الأقصى ليس ساحة عبادة وحسب بل ساحة جهاد ومواجهة
قد يكون المشهد في الأقصى، قبل اعتصام المقدسيين أمام البوابات ورفضهم الدخول، قد أوحى بأنّ المعركة على الأقصى هي معركة على حقّ الصلاة في المسجد، وعلى إمكانية الدخول إليه لأداء الشعائر الدينية فيه. مع الإصرار على الرّباط في المسجد للتصدي لاقتحامات المستوطنين وعدم ترك المسجد لهم ليستبيحوه. لكن ما حصل بعد تركيب الاحتلال البوابات الإلكترونية أزال هذا الاشتباه بعدما رفض المقدسيون الدخول إلى المسجد واختاروا الصلاة عند أبوابه والرباط في الطّرقات المؤدية إليه. فقد كانت مقاربة المقدسيين للمسجد على أنّه ساحة مواجهة وجهاد وليس مجالًا جغرافيًا لأداء الشّعائر الدينية وحسب.
رابعًا: الشّارع المقدسي قادر على فرض خياراته على القيادات
جسّدت معركة البوابات قدرة المقدسيّين على توجيه مسارات القيادات وعلى إجبار الأطراف المعنية مباشرة بالأقصى على الوقوف خلف مطالبهم، وكانوا أقدر على تحديد الأولويات: فمنع الاحتلال من فرض أمر واقع أولى من الدخول إلى الأقصى عبر البوابات الإلكترونيّة بذريعة عدم تركه للمستوطنين، وعدم الدّخول إلى المسجد قبل فتح باب حطّة أولى من الدخول إليه عبر باب الأسباط، والصلاة عند أبوابه بعز أولى من التعبّد فيه بذلّ. ومع الإصرار الشعبي، والمشهد الوحدوي الذي اصطفّ فيه المقدسيون وأهالي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 برجالهم وشبابهم وشيبهم ونسائهم وأطفالهم، وبكلّ أطيافهم، والبيئة الحاضنة التي أمّنها أهل البلدة القديمة للمعتصمين والمرابطين، كل ذلك شكّل سقفًا للتحركات الرسمية، حتى أنّ المعارضين لعملية الأقصى عادوا بعد انتصار هبة باب الأسباط لينسبوا النّصر إلى جهدهم.
خامسًا: سقوط مقولة إعطاء الذّريعة للاحتلال
في حروب الاحتلال على لبنان وغزة التي اتهمت فيها بعض الجهات المقاومةَ بإعطاء العدوّ ذريعة لشنّ حرب، خرجت أصوات تتهم الفلسطينيين "الجبّارين" الذين نفذوا عملية الأقصى بأنهم أعطوا الاحتلال ذريعة ليشنّ عدوانًا على الأقصى، حتى أن بعض الأصوات برّرت إجراءات "إسرائيل" التهويدية بـ "حقها في الدّفاع عن أمنها". إلا أنّ القارئ لتاريخ الاحتلال يعرف جيدًا أنّ "إسرائيل" لا تحتاج إلى ذرائع، وكلّ مسلسل التهويد في الأقصى لم يسبقه "استفزاز" من المقاومة وينفذ الاحتلال حذافيره من دون اكتراث. أمّا المقاومة فهي الرد على الاحتلال وليست سببًا له، وعملية الأقصى رد على انتهاكات الاحتلال في المسجد وليست سببًا لها، والمقاومة حقّ مشروع شاء من شاء وأبى من أبى.
ختام القول، إنّ هبة باب الأسباط هبّة جهاد ومقاومة، وعنوان نصر وكرامة، وهي عبرة لمن يعتبر، أمّا من اعتادت نفوسهم الهزيمة فاستطابوها لن يطيب لهم أن تكون هذه الهبة نصرًا، ولكنّها على أي حال خطوة على طريق إنهاء احتلال الأقصى. وقد كتب باروخ كيميرلينغ، عالم الاجتماع الإسرائيلي، إنّ العلاقات في الصراع ليست متماثلة، حيث إنّ انتصارًا عسكريًا إسرائيليًا هو دورة إضافية في الصراع طويل الأمد بين اليهود والعرب، أمّا الهزيمة فتعني تدميرًا سياسيًا للدولة اليهودية، وإذا أسقطنا هذه المقولة على نصر هبّة باب الأسباط، حتى وإن لم تكن المعركة عسكريّة، جاز القول بأنّه هزيمة للاحتلال تجعل نهايته أقرب.