ما وراء اعتقال الاحتلال حرّاسَ الأقصى وكيف يمكن التّصدّي للهجمة الإسرائيلية؟
![]() ![]() ![]() ![]() |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدوليةبعد الإنجاز الذي تحقّق في هبّة باب الرحمة، انقضّ الاحتلال على حراس المسجد الأقصى فأصدر أوامر إبعاد بالجملة طالت موظّفي الأوقاف، وقضت بإبعادهم عن المسجد فترات متفاوتة تصل حتى ستة أشهر. ليس استهداف حراس الأقصى والأوقاف بالأمر الطارئ والمستجد، لكنّ تعزيزه بعد إنجاز هبّة باب الرحمة يأتي في سياق محاولات الاحتلال الالتفاف على النّصر الذي حقّقه المقدسيّون، ومعهم دائرة الأوقاف، عبر كسر قفل باب الرحمة، وانتزاع حقّهم بالصّلاة في مصلّى باب الرّحمة الذي أغلقه الاحتلال تعسّفًا منذ عام 2003.
صعّد الاحتلال في السّنوات القليلة المنصرمة من وتيرة استهداف الأوقاف إلى حدّ بدا معه أنّ الاحتلال يكرّس تآكل الوصاية الأردنية على المسجد حتى يصل إلى إلغائها، وفرض السيادة الإسرائيلية على الأقصى كاملاً. وكان من أوجه هذا الاستهداف التدخّل الصارخ في عمل الأوقاف ومنع الدائرة من تنفيذ أعمال الترميم التي يحتاج إليها المسجد، وتهميش موظفي الأوقاف عبر إقصائهم عن المسجد، ومنعهم من أداء عملهم، وإلزامهم بالبقاء على مسافة معيّنة من المستوطنين في أثناء الاقتحامات، وإصدار قرارات بإبعادهم عن الأقصى ومنعهم من الدخول إلى مكان عملهم. وبالتوازي مع هذه السياسة التي انتهجها الاحتلال كانت تتعالى الأصوات من نشطاء "المعبد" ومن عدد من أعضاء "الكنيست" بالدّعوة إلى إنهاء الوصاية الأردنيّة على المسجد ووضعه تحت السّيادة الإسرائيليّة الكاملة.
كان قرار مجلس الأوقاف الجديد الصلاة في مبنى باب الرحمة يوم 14/2/2019 قرارًا جريئًا، وجّه رسائل إلى الاحتلال بأنّ المجلس الجديد، بمن يضمّه من شخصيات وقفت مع الجماهير في هبة باب الأسباط في تموز/يوليو 2017، سيعمل على ترميم دور الأوقاف في الأقصى والتّصدي للهجمة الإسرائيلية على المسجد، وقد فهم الاحتلال الرسالة جيّدًا فسارع إلى إحباط مضامينها، ووضع القفل على البوابة المؤدية إلى مبنى باب الرحمة ليقول إنّ الدخول إلى المبنى ممنوع، ولن يكون القرار حول ذلك بيد الأوقاف. لكن إقفال البوابة فتح بابًا للحساب مع الاحتلال ظنّ أنّه أقفله، فكان عليه مواجهة غضب المقدسيّين الذين رأوا أنّ إقفال البوابة لا يختلف عن وضع البوابات الإلكترونية في عام 2017، الأمر الذي أدّى حينها إلى هبّة باب الأسباط ونجحت وقتها الجماهير في صناعة موقف تلقّفته القيادات المقدسيّة وسارت في سياقاته. حاولت الأوقاف استيعاب المشهد فأعلنت أنّها وضعت قفلاً على البوابة ومفتاحه بيد الأوقاف، لكنّ أصوات المقدسيين تعالت في اتّجاه آخر: ليست المعركة حول من يملك مفتاح البوابة، بل حول أساس إقفالها، والمطلوب هو استعادة مبنى باب الرّحمة وفتحه والصلاة فيه. تلقّفت الأوقاف إرادة المقدسيين التي فتحت الطريق أمام استعادة باب الرحمة، وبعد رباط ليالٍ بالقرب من المبنى والصلاة حوله أمكن فتح المبنى وأدّى المقدسيّون الصلاة فيه، وقررت دائرة الأوقاف تعيين إمام لمصلى باب الرحمة، ورسا المشهد على خسارة على الجانب الإسرائيلي: الأوقاف تقول كلمتها ولا تنتظر إذنًا من الاحتلال، والاحتلال يحاول لملمة ذيول الهزيمة ولا يقدر. وقد طالبت أصوات إسرائيلية رئيس حكومة الاحتلال بمنع "تحويل مبنى باب الرحمة إلى مصلّى"، ومنع دخول المسلمين إلى الأقصى لأداء صلاة الجمعة، أو فرض قيود عمرية عليهم، أو أي إجراء تقتضيه ضرورات الحدّ من تدهور الموقف في الأقصى لغير مصلحة الاحتلال.
ومع الحاجة إلى تدارك الموقف وعدم السماح بتكرار نصر هبة باب الأسباط، ناهيك عن ضرورة الحد من مشهد الخسارة الإسرائيلية في الأقصى عشية الانتخابات التشريعيّة المبكرة، فإنّ الاحتلال يحاول إثبات سيادته على المسجد ليقول إنّ كلمته فوق كلمة الأوقاف، وأنّه يقرر أي باب يفتح، وأي مبنى يغلق، ومن يصلي في المسجد، وأين يسمح بالصلاة، ولهذه الغاية فهو لم يتوانَ عن اعتقال رئيس مجلس الأوقاف في القدس، الشيخ عبد العظيم سلهب وإصدار أمر بإبعاده مدّة 40 يومًا عن الأقصى، ونائب مدير الأوقاف في القدس الدكتور ناجح بكيرات وإبعاده عن المسجد مدّة أربعة أشهر، وإصدار أوامر بإبعاد 14 حارسًا على خلفيّة مشاركتهم في فتح باب الرّحمة، ومدّدت أوامر الإبعاد بالأمس لعدد من الحراس وغيرهم من طواقم الأوقاف، لمدد تتراوح بن أسبوعين وستّة أشهر. وقد وجه حرّاس الأقصى ممّن أبعدهم الاحتلال عن المسجد نداء إلى كل عربي ومسلم يعنيه أمر الأقصى في كل أنحاء الأرض، وفحوى النداء أنّ الخطر على باب الرحمة لم يزل بإعلان المحامين أنّ لا قرار من الاحتلال بإغلاق المبنى، وبالصلاة فيه، إذ إنّ الخطر مصدره إرادة سياسيّة وليس مجرّد قرار قضائي، وقرارات الإبعاد الصادرة عن الشرطة نافذة بذاتها وليست بحاجة إلى قرار من المحكمة لتنفيذها.
إنّ النظر في ردّ الاحتلال في مقابل التطوّرات التي فرضها سلوكه إن في تركيب البوابات الإلكترونية عام 2017 أو القفل على بوابة مبنى الرحمة مؤخرًا يؤكّد أنّ الاحتلال يعجز أمام الجموع، ويخشى الالتحام مع إرادة الجماهير، فعندما اجتمع المقدسيون عند باب الأسباط أسقطوا البوابات، وعندما اجتمعوا على فتح مصلّى باب الرحمة شكل موقفهم حافزًا للأوقاف على التصدي لقرار الاحتلال ونجحوا في ذلك، وإن هم دعموا الحرّاس فإنّهم سيكونون سياجًا لهم يتظلّلون به لكسر قرار إبعادهم عن الأقصى، فالاحتلال يدرك أنّ وهم الأمن في القدس معرّض للانفجار في أيّ وقت تتّحد فيه الجموع المقدسيّة، لا سيّما حول المسجد الأقصى.
ولذلك، فإنّ خطّ تحصين النّصر في هبّة باب الرحمة سترسمه إرادة الجماهير المقدسيّة التي يعوّل عليها لكسر قرارات الاحتلال وأوامر الإبعاد، ومساعيه إلى إعادة إقفال مبنى باب الرحمة إذ تقدّمت النيابة العامة الإسرائيلية بطلب جديد إلى محكمة الصلح تُطالب فيها بإصدار أمر تمديد إغلاق مُصلى باب الرحمة بذريعة أنّ المُصلى يستعمل حاليًا كمكاتب للجنة التراث الإسلامي المحظورة بحسب القانون الإسرائيلي بالتوازي مع محاولات فرض الإغلاق عبر القنوات السياسية. ولن يكون الالتفاف الجماهيري حول الحراس لحماية هؤلاء وحسب، ولإعادتهم إلى مسجدهم، بل لمنع الاحتلال من فرض تغيير جديد في الوضع القائم التّاريخي، وإحباط مخطّط التقسيم المكاني الذي يحاول الاحتلال إطلاقة من باب الرحمة والمنطقة الشرقية من المسجد عمومًا.