على خطى التضحية في رمضان
الخميس 30 أيار 2019 - 5:51 م 3700 0 تدوينات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدوليةتتسلل ظلال سوداء قاتمة في خفية وتوجس، تتلافى ضوء القمر وهي مرتابة مرتاعة، تراهم يرتعبون من تمتمات المصلين القانتين المتهجدين، يتسللون إلى المسجد يحملون في قلوبهم جزعًا وفي أيديهم بنادق تكفي لإحداث مذبحة... وما كان خوفهم إلا لمعرفتهم العميقة أن المسجد ما كان ولن يكون لهم، وأنهم وفي سكون هذا الليل مقتنعون أنهم دخلاء طفيليون، ولكنهم يستقوون بما يملكونه من قوة وجبروت، أما على الجهة المقابلة ثلةٌ من السجد الركع، يتدثرون بحبهم للأقصى، ويرابطون في ليالي هذا الشهر الفضيل، قلوبٌ غضة تتبتل في طمأنينة وتوله، وهم بين تالٍ وذاكر وقائم، شتان شتان بينهما...
تكرر مشهد تسلل جنود الاحتلال إلى الأقصى خلال ليالي شهر رمضان مرات عديدة، يقتحم جنود الاحتلال المسجد ليخرجوا الآمنين المصلين، ويمنعونهم من حقٍ واضحٍ كالشمس.... أخال الضيق الذي يعتصر كل واحدٍ من المصلين، وهو يحبس دمعة في مقلته، يتلمس وهو خارج حجارة الأقصى ببنانه، ويقول والله ما خرجنا منك إلا مرغمين مضطرين، يكاد الواحد منهم يشعر بالحجر يتشبث به، يريده معه وبقربه، وبعد خروجهم يفترشون الأزقة حول المسجد، ليظلوا في اعتكاف ورباط...
أمام هذه المشهدية يتحول الأقصى لفسطاط يواجه فيه أهل الحق جماعة الباطل، وتأخذني هذه المشاهد والصور لعالم من المشاعر لا أكاد أحيطه... كيف يمكن للمسجد الأقصى أن يختبر كل هؤلاء الجلاوزة المتجبرين، الذين يقتحمونه ويعيثون فيه فسادًا كل يوم ومن دون توقف، كم تلعن حجارة المسجد هؤلاء الطغام، الذين يعربدون في أرجائه، كم يحزن عندما يخلو من محبيه ورواده، حجارته التي مضى عليها أكثر من ألف عام تئن من هول ما تشهد، لم يعد اقتحام المسجد هو المعاناة الوحيدة، بل هو جزء مما يعانيه، فينزف المسجد رواده الذي تحتجزهم سلطات الاحتلال وتبعدهم، وتنخر أسفله حفريات وأنفاق، وتتدخل فيه الأيادي العابثة، وحتى في رمضان لم يكد المسجد يستقبل أهله ورواده حتى أخرجوا منه..
مشهدية مرعبة قاتمة، يدخل المحتلون ليجتثوا أصحاب البيت في ليالي البركة والخير، ولسان حالهم يقول اخرجوا ما لكم فيها من عزيز يشد أزركم، اخرجوا من مسجدكم فإن الفساد في الأرض قد غلب وعلا، ولم تعد الجموع تخرج لأجلكم، فقد أضحت المظاهرات مسيرات على مواقع زرقاء تقيدها أيادي العابثين اللاهين، وأضحت الصفقات شعارات معلنة تريد بيعكم في سوق التفاوض على الرعاية والحماية، وأضحى أصحاب الألقاب المقدسة رعاة التفريط بكم، والتضحية بما بقي من قدسكم، وها نحن نمنعكم من الاعتكاف عدة مرات في خير الشهور وفي خير الأماكن ونكررها ولا رادع لنا... بل نحضر لنقتحم مسجدكم في الثامن والعشرين من رمضان، ونروج أن الآلاف من بني جلدتنا سيقتحموه، ولن يكون في وجهنا إلا أنتم، وحدكم فقط...
ويأتي جواب المرابطين واضحًا جليًا، بأن التضحية والفداء صنوان في هذه العصابة الربانية، وأن تفردهم وتخلي القاصي والداني عنهم ليس إلا إرهاصًا لانتصار قريبٍ قادم، وأن حرمانهم من الاعتكاف في رمضان جزء لا بد منه في مسيرة التضحية، والعقبى لختام هذه المشهدية، عندما ينتصر الدم على السيف، وتقاوم العين المخرز.