حكايا المطبعين
الجمعة 28 حزيران 2019 - 3:07 م 3652 0 تدوينات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدوليةعمل المؤرخ الكبير أبو الفضل محمد بن النهروان على تأريخ الأحداث في منطقتنا العربية، فكان يتطرق للموضوعات حينًا وما جرى بها، ويتناول الأحداث أحيانًا أخرى ويربطها بسياقاتها ونتائجها، ومما تناول مؤرخنا النحرير تلك الهجمة العربية للارتماء في حضن الاحتلال الإسرائيلي خلال عامي 2018 و2019 وما قبلهما، وكيف نظر إليها بعد مئة من الأعوام وسجل أحوال الشعوب معها ومواقفهم منها، وهي نفائس حملها في كتابه الحافل "الضوء اللامع في التاريخ الجامع"، وهو سجل عظيم بأحداث المنطقة وتطورات الأمور وأخبار الدول وتقلبات الأحوال.
يقول ابن النهروان:
"ظلت ما تسمى "إسرائيل" تجثم على صدر الأمة، وهي كيانٌ سرطانيّ زرع في هذا الشرق وكان بلاء وغمّة، وظلت زمنًا كبيرًا لا تقبلها الشعوب ولا تودها القلوب، وجرت بين هذا الاحتلال الغاشم وبين العرب حروب ومظالم، خسِر العرب فيها خسائر فادحة، وكانت هزيمتهم جراء التشرذم والشقاق ظاهرةً فاضحة، ودُعم هذا الكيان من قبل كبار الدول المانحة، ولقي دعمًا من الولايات المتحدة وبعض أوروبا الكالحة، ومن هول تلك الخسارة، أطلقنا على تلك الحروب أسماء فيها كلُّ مرارة، فالأولى نكبة عمياء، خسرنا فيها معظم فلسطين، فكانت علينا كالليلة الدهماء، أما الثانية فاسمها النكسة، خسر العرب فيها القدس والأقصى، بالإضافة إلى الجولان وسيناء.
ومضى زمن الحروب والمواجهة، وركن العرب فيه للسلام والبُعد عن الخصام، ومنذ حرب ثلاثٍ وسبعين، والأنظمة العربية عن الاحتلال مشغولين، بل لرضاهم طالبين، ومنذ ذلك التاريخ مضى قطار التطبيع والتضييع، وبدأت الدول العربية في التسابق لعقد الاتفاقيات، وجعل "السلام" على رأس الغايات، فمن "كامب دايفد" إلى "وادي عربة"، حتى وصل إلى الفلسطينيين المرض، وتخلى جزءٌ منهم عن البندقية ورضي من دنياه بالعرَض، فأتت "أوسلو" وما بعدها، ومن ذاك يموت القلب من حسرةٍ وكمد.
وبقي العرب ردحًا من الزمن وهم بين مطبعٍ مفضوح، وآخر يقيم علاقاته من تحت الطاولة معروفٌ وغير معروف، وبقيت قلة من الفلسطينيين والعرب، رفضت جميع العروض والقُرب، وبقيت على نهج الجهاد سائرة، ولعدوها بإذن ربها قاهرة، وسطروا أعظم الملاحم، وكسروا "الجيش الذي لا يقهر" وجعلوه بين طريدٍ وهائم، فكانوا النموذج الموعود، وثبتوا على الرغم من التقصير والجحود".
وبعد هذه المقدمة التي تؤرخ لبعض المحطات العربية، يكمل ابن النهروان حديثه عن حكايات المطبعين، وأساليبهم في ذلك وغاياتهم المضمرة أو المعروفة، يقول:
"ومع انحسار ما عُرف بالربيع العربيّ، وتشريد واعتقال كل حرٍ وأبيّ، بدأت الدول التي ساهمت في وأد الربيع، بالولوج في قطار التطبيع، فمن الزيارات التي تتلطى بالأكاديميّة، إلى المشاركة في البطولات الرياضيّة، وصولًا إلى "صفقة القرن" والورشة البحرينيّة، وما بينها من زيارات ولقاءات واتصالات، جعلت جزءًا من العرب يهيم للتقرب بـ"إسرائيل"، ويستخدم في سبيل ذلك كل وسائل التزييف والتضليل، فحوّل ذبابهم على وسائل التواصل، الاحتلال إلى كائن لطيفٍ جميل، وأشاعوا أن الفلسطينيين باعوا الديار، وأنهم هم المعتدون أصحاب البوار، كأنهم يحاولون تجميل القبيح، وهو ما لا يمكن لو استخدموا من العبارات الدارج والفصيح.
وبعد هذه الأفعال المهزومة، والمحاولات المذمومة، بدأ جزءٌ من الأعراب البحث عن مظلةٍ جديدة، وكأن عروشهم لا يُمكن أن تبقى إلا برضا "إسرائيل" وحكومتها "الرشيدة"، فظنوا أن أفعالهم سديدة، وانخرطوا بصفقة "القرن" لإنهاء فلسطين وقضيتها من دون تأنيب ضميرٍ أو حزن، وبذلوا لأجل ذلك الوسائل كأنهم رجل سكران لا يستطيع أن يتزن، مستعدين لدفع المليارات الكثيرة، وتبادل للأراضي من دون ريبٍ أو حيرة، فكيف يمكن لذوي عقلٍ ولب، أن يبيع أرضه، ومن جيبه يدفع الثمن، متناسين ما مر على هذا الشعب المظلوم من شدائد ومحن...وانعقدت الورشة المزعومة، وشارك فيها أعرابٌ دولهم عقيرة مذمومة، وخطب فيهم صغير الشأن "كوشنير"، كأنهم طلابٌ بين يديه وهو معلمهم ينادونه تفضل "سير"، ولربما شكره بعضهم بلكنته الخليجية "ربِّ يجزاك كل خير"...
ولعمري كم تفت في كبدي مثل هذه الأخبار، أيفرط عربيّ بأرضه للمحتل وهو عاقلٌ مختار؟، أيعقل أن تفتح بلادنا للإسرائيليين وكأنهم رحمٌ لنا أو جار، ما للهوان قد سربل تلك الأنظمة الواهية، فجعلت تدك حصون أمتنا الباقية، وشرعت أبوابنا لكل أحمق داهية...ولكن يا أيها القارئ الكريم، لا تظنّ أن الأصوات الرافضة في أمتنا أبيدت، فعلى الرغم من هذا الانبطاح، يظل للأحرار صوتٌ رافضٌ بل صياح، وأوصلوا رفضهم في وجه دعاة النباح، فلقد قالتها الشعوب المستضعفة، بأن على هؤلاء قد أزفت الآزفة، فمن يطبع مع الاحتلال سيعاقب كعقاب الأمم السالفة، فالأباة سيقطعون الأيدي الآثمة، ويزيلون من فوقهم الهياكل الجاثمة، فهم ليسوا سوى شراذمة، والأيام دول، وما هذه الحكايا إلا ضربٌ للمثل".