خمسون عامًا على الجريمة.. والأقصى حيٌّ فينا
الثلاثاء 20 آب 2019 - 4:48 م 3883 0 تدوينات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدوليةكثيرةٌ هي المشاهد التي تؤثر بك تأثيرًا شديدًا، وتغير في كنهك أمرًا صغيرًا لا تدركه، ولكنه عميق الأثر، غائر المعنى.. وكثيرة أيضًا تلك الأسئلة البسيطة الساذجة ولكنها وفي ثوب البساطة تزخر بأعظم المعاني، حتى تشعر أن الإجابة عنها ضنينة بل مستحيلة. ومن هذه الأسئلة الشائكة سؤال تلقيته في واحدةٍ من قرى عكار، في ختام محاضرة عن دور المرأة في نصرة القدس والأقصى، بادرتني به امرأة تحمل همّا وهمة، قائلة لي: كيف يمكنني أن أجعل أولادي ممن يحرر المسجد الأقصى المبارك، كيف لي أن أنشئهم كما نشأ نور الدين وصلاح الدين؟ ...
موقفٌ آخر بشبه الأول، إذ طلب مني شابٌ صغير يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، صورة جميلة للمسجد الأقصى المبارك وخلفها علم فلسطينيّ يرفرف عاليًا، ليضعها على قميصه، ويكون هذا القميص بابًا ليتحدث للناس عن المسجد، وقيمته، وعن الأخطار التي يتعرض لها، ليحمل الأقصى بجوار قلبه، كما يحمل حب القدس والأقصى في قلبه وفي وجدانه، سألته عن مضايقات العنصريين أو الصهاينة، قال هل هي شيء أمام تضحيات من يرابط في الأقصى ويذود عنه... نموذجٌ آخر يحيى الأقصى في كيانه على بعد آلاف الكيلومترات....
لقد مضى على هذه الأسئلة والمواقف زهاء ثلاث سنوات، وكلما تذكرتها تُثير في قلبي معاني لا عدّ لها، عن علاقتنا بهذا المسجد الأثير، وعن الحب الذي ينبت في قلوبنا وقلوب أجيالنا الصاعدة، عن تلك الأجيال التي نستطيع أن نجعل المسجد في قلب مهدافها، وفي أس أهدافها وخططها، عن ذلك المسجد الذي يحيى في قلوب الملايين من جاكرتا إلى واشنطن، عن ميراث التشوق إليه وإلى زيارته، عن رباط ساعة في جنباته، عن النوم هانئا تحت سقفه، ملتحفًا تاريخًا عظيمًا، متدثرًا بواقعٍ مرّ....
هذه النماذج المتفرقة وغيرها الكثير، مما نراه في الأنشطة والمحاضرات، ومما نتلقاه في فضاءات التواصل الاجتماعي، عن تلك الأمّ التي بكت وليدها دمعًا وزغاريد، تُفاخر معزيه أن "حيسنًا" كان سفيرًا للقدس، وكانت أسمى أمانيه الشهادة في رحابه الطاهرة.. عن أطفال يرون في قباب المسجد أجمل بقاع الدنيا.. عن عجائز لا أماني لهم إلا الصلاة في رحاب الطهر والبركة.. عن رجال يذرفون الشوق في كل لحظة وسكنة.. عن شباب يفتخرون أنهم يعملون للأقصى، فهم شباب القدس والقدس أمانتهم، تراهم فاعلين مؤثرين عاملين من الدار البيضاء إلى كابل... صور متفرقة تشكل مشهدًا مهيبًا من تعلق الأمة بهذا المسجد، عن حبّ وتشوق نراه عمليًا، عن جماهير هي رأس التفاعل والمناصرة والتأييد، عن نبضٍ واضحٍ حي، يفاخر الدنيا أن الأقصى حيٌ في قلوبنا، يؤكد أن موات الحكام وتكاسلهم لا يمثل أبدا حقيقة هذه الشعوب النابضة بالعمل والتأييد...
خمسون عامًا تمر على جريمة إحراق الأقصى، وما مرت هذه الأعوام سهلة يسيرة على أصحاب الحق، فقد أطفئت نيران الحريق نعم، ولكن حرائق كثيرة من نوع آخر قد أِشعلت، خمسون عامًا من محاولة الإقصاء، والتضييع، من محاولات التدنيس والتقسيم، لم تثن جماهير القدس عن مواصلة الرباط والمواجهة، ولم تُنس الملايين أن البوصلة للأقصى لا يمكن أن تضيع، وأن حياة الكثيرين منهم تستمد قوتها من العمل له وفي سبيل تحريره...
خمسون عامًا ونسوة يهدهدن أطفالهن على ذلك المشهد الباذخ من الصلاة في الأقصى، يقصصن لهم أقاصيص ثلة من الشباب دوخت الاحتلال وشتت جمعه، عن فتية ثأروا للأقصى ولمرابطاته، عن فرسان اسمهم إبراهيم، وأشرف ومعتز، لحقوا بالركب وأذاقوا الاحتلال الكرب، عن صلاح الدين الذي لا يقود الجيوش، ولكنه ينقض على شرطيّ دنس الأقصى بقلبٍ متعلق بالله، وروحٍ لا ترى إلا الأقصى...
خمسون عامًا والمسجد روحٌ علوية تأبى الانكسار، تتطلع إلى قلوب هذه الفئات المرابطة، تدعو وتنتظر، لا تمل الفرح بأشبالها الصغار، وهي ترى أمة ما زالت قادرة على العطاء والحب، تقلب حبات سبحتها، وهي تبتسم، تبدد باليسرى دخان الحريق، وترفع اليمنى لترتقب فارسها القادم... وما ملت الانتظار...