القدس من الاحتلال الصليبي حتى الفتح الصلاحي
الإثنين 23 أيلول 2019 - 1:20 م 17153 0 مقالات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدوليةمقدمات التحرير واستراتيجية النصر
امتدت حقبة الحروب الصليبية نحو 200 سنة، وأدت إلى احتلال أجزاء كبيرة من بلاد الشام، وشكلت هذه الحروب نموذجًا لمقارنته بين واقعنا اليوم، وواقع الأمة قبيل الاحتلال الصليبي، من حيث التشرذم والضعف، وتفشي الخلافات المذهبية والفكرية والسياسية، التي أضعفت الأمة وجعلت الاحتلال الصليبي للقدس ممكنًا، من دون وجود أي مقاومة شاملة زمن الاحتلال، وهي حالة دفعت الأمة إلى النهوض من كبوتها، وتوحيد جهودها لتحقيق النصر والتحرير.
لقد وصفت الحروب الصليبيّة بأنها أول حركة استعمارية للغرب الأوروبي نحو الشرق، وقامت نتيجة عوامل سياسيّة واقتصاديّة ودينيّة واجتماعية مختلفة، وهي الأسباب التي دفعت آلاف الأوروبيين إلى المشاركة فيها، للتخلص من واقعهم السيء، والحصول على كنوز الشرق.
بدأت شرارة هذه الحروب بخطاب ألقاه البابا أوربان الثاني في 27 تشرين ثانٍ 1095م، في كليرمونت في فرنسا، دعا خلاله أوروبا لإعداد حملات عسكرية لتحرير القدس والبلاد المقدسة، ومع انطلاق هذه الحملات، سقطت مدينة أنطاكيا عام 1098م، ثم سقطت القدس في 15 تموز 1099م الموافق 23 شعبان 492 هـ. حيث ارتكب المحتلون مجازر فظيعة، ويقول المؤرخ ابن الأثير عن هذه الفظاعات "لبث الفرنج في البلدة أسبوعًا، يقتلون فيه المسلمين"، ويقول "قتل الفرنج بالمسجد الأقصى، ما يزيد على سبعين ألفًا".
لم يكن اكتساح الصليبيين الفرنجة السريع للمناطق الإسلامية، إلا نتيجة لحالة الضعف والتمزق التي كانت تعاني منها الأمة. فمنذ منتصف القرن الثالث الهجري، أخذت الخلافة الإسلامية بالضعف، وسيطرت مظاهر البذخ واللهو على الدولة العباسية، ولم يعد للخلفاء أي سلطات تذكر، وتنازعت البلاد الإسلامية ثلاث دول تسمي نفسها "خلافة"، وسيطرت عوائل على الخليفة العباسي كالبويهيين والسلاجقة، وجراء ضعف سلطات الخليفة في بغداد، ظهر في بلاد الشام عددٌ من الدويلات المتناحرة.
أحدث احتلال القدس وباقي مناطق الشام صدمة كبرى لدى جموع الأمة، ولم يكن تقاعس الحكام والخلفاء عن نصرة القدس، إلا نتيجة حالة التردي التي وصلت إليها الأمة. ومع ذلك بدأت جهود فاعلة لتصحيح ما فسد، وتمثل أبرزها بجهود الوزير السلجوقي نظام الملك، حيث قام بإنشاء المدارس "النظامية" في مختلف المدن والقرى التابعة للسلاجقة، بالإضافة إلى عددٍ من العلماء الذين تولوا شؤون التدريس والقضاء والحسبة، ومنهم الإمام الجويني والغزالي والجيلاني وغيرهم.
بدأت ثمار هذه المدارس الإصلاحية بالظهور، مع تولي آق سنقر إمارة حلب في شوال 479 هـ، وسار في حلب سيرة حسنة، فأقام الحدود الشرعية وقضى على اللصوص، فأمن الناس على أموالهم وأنفسهم. ثم خلفه ابنه عماد الدين زنكي، الذي سار على خطى والده، فتولى إمارة الموصل عام 521 هـ، ووجه جهوده العسكرية لمواجهة الصليبيين، فاستطاع تحقيق انتصارات كبيرة، توجها بإسقاط مملكة الرُّها الصليبية في 6 جمادى الآخرى 539 هـ، وبعد 20 عامًا من جهاده للصليبيين، قُتل عماد الدين زنكي في ربيع أول 541 هـ، خلال حصاره قلعة جعبر على الفرات، بعد أن أسس طريق التحرير لولده نور الدين محمود.
بدأت مع نور الدين مرحلة جديدة في جهاد الصليبيين، وبدأت معالم تحرير القدس تتبلور بشكلٍ أكبر، فقد شكلت سياسة نور الدين نقطة قوة لجهود مواجهة الصليبيين الفرنجة، وتضافرت جهود الدولة لتحقيق القاعدة الصلبة لمواجهة الممالك الصليبية، وأصبح نور الدين نموذجًا للقيادة الإسلامية الصادقة، لما يمتلكه من صفات قياديّة، إضافة إلى ورعه وتقواه. وتمثلت خطة نور الدين محمود بعددٍ من السياسات الرامية للنهوض بالأمة، ورفع سويتها في إطار إعداد المواجهة واستعادت القدس، ونذكر من هذه السياسات:
- توحيد صف الأمة، ونبذ الخلافات المذهبية، والقضاء على التيارات المنحرفة.
- إشاعة العدل، وتعيين الأكفاء.
- إقامة المنشآت العامة، ورفع سوية الاقتصاد الإسلامي.
- تعزيز القوة العسكرية، والعناية بصناعاتها.
- توحيد المناطق الإسلامية، وخاصة بلاد الشام ومصر.
- إنهاك القوة الصليبية، وتدميرها بشكلٍ تدريجي، وتحرير المناطق المحتلة.
حققت سياسات نور الدين نتائج باهرة، فاستطاع السيطرة على قلاع ومدن الشام واحدة تلو أخرى، وبعد ثلاث حملات على مصر، استطاع إيجاد موطئ قدمٍ في ربيع أول 564 هـ، وتولى القائد أسد الدين شيركوه الوزارة عند الفاطميين، ثم تولاها من بعده ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، وفي محرم 567 هـ أسقط صلاح الدين الدولة الفاطمية، وخطب للخليفة العباسي على المنابر.
ومع جهود نور الدين الإصلاحية، لم يتوقف جهاده ضد الصليبيين الفرنجة، واتبع نور الدين استراتيجية لإضعاف قوى الصليبيين بشكلٍ تدريجي، من دون خوض حرب شاملة ضدهم، فما بين 1146 و1174م استطاع نور الدين تحرير 50 مدينة وقرية، وكانت هزيمة الحملة الصليبية الثانية 1147-1148م، والانتصار في معركة حارم عام 1164م، من أبرز إنجازات نور الدين، حيث كسرت شوكة الصليبيين الفرنجة، ورفعت الروح المعنوية للمسلمين.
وقد جعل نور الدين تحرير القدس هدفه الأسمى، ومهد الطريق لتحقيق ذلك بكل ما استطاع، حتى أنه أمر بإنشاء منبر يوضع في المسجد الأقصى المبارك بعد تحريره، ففي عام 564 هـ/1169م أمر أن يصنع منبر للمسجد الأقصى، وجمع لهذا المنبر أمهر الصناع، ليبدعوا تحفةً رائعةً وأثرًا خالدًا، وانتهى العمل في المنبر في عام 570ه/1174م. ولم يكمل نور الدين مسيرة التحرير، فقد عاجلته المنية في 11 شوال 570ه- 15/5/1174م، بعد مسيرة حافلة بتوحيد المناطق الإسلامية، ومواجهة الصليبين الفرنجة.
بعد وفاة نور الدين شهدت بلاد الشام اضطرابًا بين ورثته، أدت هذه الخلافات إلى تأخير التحرير نحو 12 عامًا، وهي السنوات التي قضاها صلاح الدين في إعادة توحيد الشام. حيث عمل صلاح الدين ما بين 570 و582 ه على إعادة توحيد الشام، فاستطاع فرض سلطته خلال هذه المدة على دمشق، وحماة، وحمص، وبعلبك، ومن ثم الرها وحلب وغيرها، وعلى الرغم من هذه الجهود الكبيرة لتوحيد بلاد الشام، شهدت هذه المرحلة عددًا من المعارك مع الصليبيين الفرنجة، سمحت لصلاح الدين التعرف بشكل مباشر على قدرات العدو وخططه خلال الحروب. وأوضحت هذه المرحلة الاستراتيجية التي عمل على تحقيقها صلاح الدين في إعداد البيئة المناسبة والممهدة لتحرير القدس، ومن أبرز مراحلها:
- توحيد المناطق الإسلامية المحيطة بفلسطين، لإعادة تشكيل القاعدة الصلبة القوية والآمنة.
- إصلاح الاقتصاد وتحويل الموارد من الاعتماد على الضرائب والمكوس، إلى مصادر أخرى شرعية، من بينها الجزية والخراج والغنائم، بالإضافة إلى إصلاح التجارة والزراعة.
- بناء القدرة العسكرية للجيش الإسلامي، فحصن المدن والقلاع، وعزز قدرات البحرية الإسلامية، وأدخل أساليب مختلقة في حشد الجيش وتقسيمه.
- وضوح هدف صلاح الدين بتحرير القدس وحشد كل الطاقات الممكنة في هذا السبيل.
واعتبرت معركة حطين أبرز المعارك الفاصلة مع الصليبيين الفرنجة، وسبقها صلاح الدين بعقده الصلح مع أمير أنطاكيا بوهيمند الثالث، ووسع اتفاقيات سابقة مع ريموند الثالث، وهي خطوات سمحت له تشتيت جهود أعدائه، وعزل مملكة بيت المقدس عن أقوى إمارتين صليبيتين، وهما أنطاكيا وطرابلس، والتفرغ لبناء الحشد العسكري للمعركة الفاصلة، والتحرك بشكلٍ مباشر إلى قلب فلسطين. وضع صلاح الدين خطة التوغل في قلب المناطق المحتلة، والاشتباك مع العدو في معركة فاصلة، خاصة بأن جزءًا كبيرًا من جيشه من المتطوعين القادمين من مناطق بعيدة، بالإضافة إلى منع الصليبيين من استعادة قدرتهم على تجميع قواتهم.
اجتازت القوات الإسلامية نهر الأردن وسيطرت على طبريا، وكان اختيار ميدان المعركة في منطقة غنية بالمراعي والماء، ونيل المسلمين قسطًا من الراحة، في مقابل التعب والإرهاق الذي نال الجيش الصليبي وقلة المياه في المكان الذي عسكروا فيه، ساهمت في تحسين ظروف المعركة، وقد وصف صاحب كتاب الروضتين حالة الصليبيين الفرنجة "قطعت على الفرنج طريق الورود، وبلغوا من العطش بالنار ذات الوقود".
وفي 24 ربيع الآخر 583 ه/ 4 تموز 1187م، احتدمت المعركة وانهزم الصليبيون الفرنجة هزيمة فادحة، وتُشير المصادر إلى أن عدد قتلى الجيش الصليبي الفرنجي بلغ نحو 30 ألفًا، وأسر منهم 30 ألفًا آخرون، ولم ينج إلا عددٌ قليل جدًا، وكان من بين الأسرى عددٌ من أمراء الصليبيين وملوكهم، من بينهم ملك بيت المقدس غي دي لوزينيان، وأرناط حاكم الكرك، وصاحب جبيل وجماعة من فرسان الداوية والإسبارتية.
وبعد الانتصار الباهر انفتحت أمام جيوش المسلمين الطريق لتحرير المناطق المحتلة، فاستطاع المسلمون تحرير طبريا وعكا والناصرة وصفورية، ثم اتجهوا إلى الخليل وبيت لحم وعسقلان وغزة، وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية. وتحولت أنظار المسلمين إلى القدس، حيث أصبح الطريق لتحريرها مفتوحًا.
فرض صلاح الدين الحصار على القدس في 15 رجب 583 هـ/ 20 أيلول 1187م، وكان فيها نحو 60 ألف مقاتل عدى عن غير المقاتلين من النساء والأطفال، وشدد المسلمون الحصار على المدينة، وحاولوا اقتحامها أكثر من مرة، فطلب الصليبيون الأمان مقابل تسليم المدينة، ولكن صلاح الدين رفض وقال لهم "لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه".
وإثر تكرر المراسلات بين الطرفين، قبل صلاح الدين إعطاء الصليبيين الأمان مقابل فدية عن كل من يخرج من المدينة من الصليبين الفرنجة، وتم تسليم المدينة في 27 رجب 583 هـ/2 أكتوبر 1187م، بالتزامن مع ذكرى الإسراء والمعراج، وأمر صلاح الدين بإزالة ما أقامه المحتلون في المسجد الأقصى، حيث حولوا جزءًا منه إلى كنيسة، وأجزاء أخرى إلى أماكن للسكن والخيول، فأمر بإعادة المسجد إلى حالته القديمة، وأمر بجلب منبر نور الدين إلى الأقصى.
وبلغ من اهتمام صلاح الدين بالمسجد الأقصى، أن أمر بغسل مبانيه ومساجده بعد إزالة تعديات الفرنجة بماء الورد والمسك، وأقيمت أول جمعة بعد ثماني أيام من الفتح، في 5 شعبان 583ه، وقام بترتيب شؤون المسجد الأقصى من بسط وقناديل وغيرها، وعيّن المؤذنين والخطباء ومن يقوم بشؤونه، وأقام عددًا من المدارس والأربطة، وأوقف على هذه الأمور أوقافًا مختلفة.
أظهر صلاح الدين من التسامح والرحمة تجاه الصليبين ما سطرته كتب المؤرخين من المسلمين وغيرهم، وعادت القدس للمسلمين بعد 88 عامًا من احتلالها، وكان يوم تحريرها عرسًا في أرجاء أمة الإسلام التي كانت تتعطش لاستعادة المدينة. وتابع صلاح الدين جهاده واستطاع تحرير العديد من المدن والقلاع، ففي عام 584 هـ فتح جبلة واللاذقية وغيرها. وبذلك استطاع صلاح الدين تحرير غالب مناطق فلسطين.
وكما شكلت القدس نموذجًا للانحدار الذي عانت منه الأمة عندما استطاع الصليبيون الفرنجة احتلالها، شكل تحريرها نموذجًا لقدرة مجموع الأمة على حشد مختلف الطاقات البشرية والعسكرية والمادية والمعنوية، لتحقيق النصر على محتليها، وهو نموذج واقعي، يقدم للأمة اليوم دروسًا عن فرض الواقع في نبذ الخلافات وحشد الطاقات لتحرير المدينة من محتليها الصهاينة، وهو نصرٌ يمكن أن يتحقق، بتضافر جهود العرب والمسلمين خارج فلسطين والقدس، وبصمود الفلسطينيين الأسطوري داخلها.