حيّ الشّيخ جراح.. كم مرّة على الفلسطينيّ أن يُهَجّر؟
الثلاثاء 2 شباط 2021 - 11:43 ص 2553 مختارات |
ما بين طرف الكنبة والحائط في منزلٍ ضيّقٍ يسكنه نبيل الكرد (76 عاماً) في حي الشيخ جرّاح في القدس فراغٌ يكفي لأن تمدّ يدَك فيه. من هناك أخرجَ نبيل كيساً يحفظ فيه أرشيفَ مقالاتِ وخواطر زوجتِه ميسون أبو دويح المنشورة في غالبها في جريدة "القدس".
يصل عمر أقدم تلك المقالات إلى 12 عاماً، وفيها وثّقت بعضاً من تطورات قصة صمود عشرات الفلسطينيّين في الشيخ جرّاح في مواجهة مخطط تهجيرهم لصالح شركة "نحلات شمعون" الاستيطانيّة التي تدّعي ملكية الأرض المسماة "كرم الجاعوني" والتي بنوا بيوتهم فوقها. يعاتبها نبيل بأنّها لم تعد تكتب كما في الماضي، فيما تبدو هي كمن يحاول تفادي "الأسى اللي ما بتنسى".
أما مناسبة استدعاء الأرشيف فهي أنّ العائلة تسلّمت (مع ثلاث عائلات أخرى: القاسم، الجاعوني، السكافي، بمجموع 30 شخصاً) في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 إخطاراً من محكمة الصلح الإسرائيليّة لمطالبتها بإخلاء منزلها لصالح المستوطنين. تلّقت مثل هذا الإخطار كذلك في سبتمبر/ أيلول الماضي 3 عائلات أخرى (حماد، الدجاني، الداوودي، بمجموع 25 شخصاً).
جُمّدت هذه الإخطارات حتى اللحظة، وتنتظر هذه العائلات، وغيرها من عائلات الشيخ جرّاح، جلسة قضائية ستعقد للنظر في قضيتهم في 9 فبراير/ شباط المقبل.
كانت ميسون في المطبخ تُجهّز طعام الغذاء عندما رنّ هاتف نبيل حاملاً خبر الإخطار فقال لنفسه إنّه سيخبرها لاحقاً حتى لا يُعطّلها عن الطبخ. عندما عرفت هي بالخبر سُدّت نفسها عن الأكل، وقالت: "طيب لو خليتنا ناكل على الأقل وبعدها خبرتنا!".
لم ينتظر نبيل وعائلته إلى أن نضج الطعام فقط، بل هم في حالة انتظار وصمود منذ ما يزيد عن 40 عاماً، منذ أن بدأت قصة 28 عائلة فلسطينيّة (يُشكلون اليوم 550 فرداً) من الشيخ جرّاح مع خطر التهجير، وذلك تحديداً عام 1982، وهي القصة التي سنروي بعض جوانبها في هذا المقال.
الشيخ جراح.. مفتاح نحو جيوب الاستيطان
خلال معارك النكبة عام 1948، نال حيّ الشيخ جراح الواقع شمال البلدة القديمة للقدس، نصيباً وافراً من القتال بين العرب والفلسطينيّين من جهةٍ والغازين الصهاينة من جهةٍ أخرى. كان تحقيق السّيطرة على الحيّ يعني بالنسبة للصهاينة فتحَ الطريق من أماكن تمركزهم غرب المدينة نحو مستوطنة الجامعة العبريّة الواقعة إلى الشّرق، وهو ما قد يؤدّي تدريجيّاً إلى السيطرة على الجهة الشرقيّة كاملة من القدس. سالت دماءٌ كثيرة صدّاً لهذا الهدف، وسلِم الحيّ من الاحتلال حتى عام 1967.
ورغم إلغائه كمخطط منذ ذلك العام، إلا أنّ ذلك لا يعني إلغاءه كفكرة يمكن أن تُسحب من الدرج ويُعاد إحياؤها من جديد. يؤكد ذلك أن دعاوى الإخلاء بحق أهالي كرم الجاعوني ما زالت تتوالى، ولم تبت المحاكم الإسرائيلية في قضيتهم بعد.
تلك الرؤية التي ترى في الحيّ وموقعه الجغرافيّ داخل القدس طريقاً مفتاحيّاً نحو الشرق ثمّ تربطه بغرب المدينة لم تتغير إلى اليوم. في العام 1967، سقط الشيخ جرّاح، وتوالت مشاريع الاستيطان فيه، وكلّها تسعى لتحقيق الهدف ذاته: تطويق البلدة القديمة بالاستيطان وفصلها عن امتدادها الشمالي، ومنع اتصال الأحياء الفلسطينيّة واختراقها بامتدادٍ استيطانيٍّ طويل يُشيّد في غالبه على أنقاض الفلسطينيين، يبدأُ عند الجامعة العبريّة شرقاً حتى يتصل مع شارع رقم 1 وأطراف غرب القدس. "المستوطنة في قصر المفتي"، وحيّ استيطانيّ في "كبانية أم هارون"، وحيّ استيطانيّ آخر في "كرم الجاعوني"، ومبنى جمعية "أماناه" الاستيطانيّة، وغيرها من المعالم الإسرائيليّة كالوزارات الحكوميّة ومقرّ الشرطة5، كلّ تلك معالم استيطانية وبُنية تحتية للاستيطان تعمل على تحقيق ذلك الهدف.
ضمن هذه الرؤية تجري هذه الأيام محاولات تهجير أهالي "كرم الجاعوني". فعلى أنقاضهم تخطط شركة "نحلات شمعون ليميتيد" لبناء مستوطنة تضمّ 200 وحدة سكنية. تقدّمت الشركة بالمخطط لـ"اللجنة المحليّة للتخطيط والبناء" في بلدية الاحتلال في القدس في يونيو/حزيران 2007. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2010، حصل المخطط على موافقة اللجنة المحليّة بعد رفضه مرتين خلال العام السابق. لكنه ألغي لاحقاً، لأسباب مجهولة، في فبراير/ شباط 2013.
اللجوء الذي يُستحدث في كلّ مرة
خلال الحكم الأردنيّ لشرق القدس وتحديداً عام 1956، أعلنت وزارة الإنشاء والتعمير الأردنيّة بالتعاون مع "الأونروا" عن مشروع لإسكان عدد من لاجئي النكبة، وذلك فوق أرض "كرم الجاعوني" التي تبلغ مساحتها 18 دونماً و800 متر مربع. حضّرت الوزارة مخططاً هيكلياً للأرض وقسّمتها إلى 28 قطعة، تتراوح مساحة كلّ واحدة بين 300-500 متر مربع، ثم بنت الأونروا فوق كلّ قطعة وحدة سكنيّة.
عقدت الوزارة الأردنيّةُ اتفاقيات تأجير لمدة 3 سنوات مع 28 عائلة فلسطينيّة لاجئة من مناطق مختلفة من فلسطين، وذلك مقابل 50 فلساً أردنيّاً سنويّاً، على أن تتخلى تلك العائلات عن حقّها في مؤن الأونروا، مع بقاء خدماتها الصحيّة والتعليميّة. أكدّت الاتفاقيات كذلك أنّها لا تتعارض مع حقّ العائلات في العودة إلى قراهم الأصلية. كبر الأبناء وتزوّجوا، وأضافوا غرفة أو غرفتين لمنزل أهاليهم الأصلي، وهكذا تكاثرت العائلات إلى أن أصبح عدد أفرادها اليوم يقارب الـ550 فلسطينياً، هم من يواجهون اليوم خطر التهجير من حيّهم.
عند الحديث عن التهجير، يعود الأهالي إلى هذه الاتفاقية الأردنيّة، ويعتبرون أن عدم تثبيتها أدّى إلى الوضع الذي يعيشونه اليوم. يقول الأهالي إن اتفاقية التأجير كان من المفروض أن تُجدد، ثم تنتهي بالتمليك. وينقلون عن آبائهم ممن عاصروا تلك الفترة، أنّهم ذهبوا للجهات الأردنيّة ذات الاختصاص لتثبيت ملكيتهم في العقارات بعد مرور السنوات الثلاثة، لكن ذلك لم يحصل. كما أنّ الأهالي يُشيرون إلى ضعف التدخل الأردنيّ لصالحهم، إذ طالبوا أكثر من مرة بتدخل الأردن، أو بتقديمها أوراقاً ثبوتيّة تؤكد حقوقهم في الأرض، لكنهم لم يحصلوا منها على إجابة، فبقي الأمر معلقاً، وهو ما سيُستغل لاحقاً لتهجير السّكان تحت ادعاء وجود ملكية يهوديّة للأرض.
وهكذا مرّت الأيام إلى أن باغتتنا جميعاً حرب الـ67.
بعد الـ67.. الحكومة والاستيطان يداً بيد
وقع الشيخ جراح تحت الاحتلال عام 1967، وفوراً بدأت الجمعيات الاستيطانية بالبحث عمّا تُسمّيه "أملاكها" المدعاة في شرق القدس. مستغلين الفراغ القانوني فيما يتعلق بتسجيل الأرض الأردنيّ، في 13 سبتمبر/ أيلول 1972 توّجه ممثلون عن "الوقف الاشكنازي اليهودي"، و"الوقف السفاردي اليهودي" إلى دائرة مُسجّل الأراضي الإسرائيليّة، وطالبوا بتسجيل هذه الأرض باسمهم. قدّموا لأجل ذلك ورقةً رسميّةً مكتوبة باللغة العثمانيّة القديمة تُفيد أنّهم ملّاك الأرض. حسب الادعاء الإسرائيليّ، فإنّ الوقفين قاموا معاً بشراء قطعة الأرض هذه عام 1876، مقابل 16 ألف فرنك.
بطبيعة الحال، يُعطي النظام الإسرائيلي أولوية مطلقة لليهودي عندما يتعلق الأمر بـادعاءاته حول ملكية الأرض، دون أن يتضمن ذلك أيّ فحصٍ روتينيّ ودقيق لتلك الادعاءات. يقول المحامي حسني أبو حسين، ، الذي يُرافع منذ حوالي 28 عاماً عن العائلات: "لم يفحص مسجّل الأرض الإسرائيلي تلك الورقة بعمق، واعتبرها كافية لتصديق ادعاء تلك الجمعيات بملكية الأرض". عن هذه الورقة يقول أبو حسين إنّها لا تشير إلى ملكية الأرض، وإنما فقط إلى حق استخدامها، وإنّها قد لا تكون متعلقة بكرم الجاعوني أصلاً، وأخيراً يقول إنّه ذهب عام 2006 إلى أنقرة للبحث عن مثيلتها في الأرشيف العثماني فلم يجد.
في المقابل، عندما قدّم سليمان دوريش حجازي (الذي يبدو أنّه المالك الحقيقي للأرض قبل تدخل الأردن في تأجيرها) عام 1997 دعوى أمام القضاء الإسرائيلي يُقدّم فيها أوراقاً ثبوتيّة تشير إلى أن قطعة الأرض هذه من أملاك عائلته، رفضتها المحكمة الإسرائيلية عام 2006، واعتبرت أن الأوراق "مزيفة".
محامٍ يهودي يُغرر بالسّكان
عام 1972 سجّلت تلك الجهات اليهودية الوقفية الأرض بملكيتها، وما بين 1974-1975 قدّمت أولى الدعاوى ضدّ 4 عائلات تسكن الحيّ لمطالبتها بإخلاء منازلها. ردّت محكمة الصلح الإسرائيليّة الدعوى على اعتبار أن السّكان الفلسطينيين مستأجرون محميون. لكنها، وهو الأهمّ تغاضت كليّاً عن فحص الادعاء الأساسي بملكية هذه الأرض؛ أي أنها لم تفحص إذا كان عملية تسجيل الملكية سليمة قانونياً أم لا. وهو الأمر الذي سيحاول الأهالي التشكيك به على مدار آخر عقدين.
عام 1982 قُدّمت من جديد دعوى ضدّ 23 عائلة من الشيخ جراح8 تطالبها بإخلاء منازلها. مثّل 17 عائلة من هذه العائلات في تلك القضية محامٍ يهوديّ يُدعى توسيا كوهين. فوجىء أهالي الحيّ في العام 1991 أنّ كوهين غرّر بهم واعترف أمام المحكمة بملكية المستوطنين للأرض، وبناء عليه أصبحوا بحكم هذا الاعتراف "مجرد مستأجرين محميين"، وأنّ عليهم دفع الإيجارات "للمالك اليهوديّ الجديد" من أجل الحفاظ على حقّهم في البقاء ببيوتهم. رفض السكان تلك الاتفاقية التي لم يُستشاروا فيها، وامتنعوا عن دفع أي إيجارات للمستوطنين.
ما الذي يجري اليوم؟
بعد عزل كوهين عن تمثيل الأهالي في المحاكم تولى الملف المحاميان أبو حسين وسامي ارشيد. ومنذ ذلك الحين مرّت القضية بتفصيلات كثيرة ومتشعبة، متنقلة بين أروقة مختلفة المحاكم الإسرائيليّة؛ الصلح، والمركزية، والعليا. وإثر خسارة بعض تلك المحاكم، نجحت "إسرائيل" بتهجير ثلاث عائلات من الشيخ جراح؛ الكرد عام 2008، وعائلتي حنون والغاوي عام 2009، وإحلال المستوطنين مكانهم. وخلال السنوات الطويلة، نصب الأهالي خيمة اعتصام أمّها متضامنون كثر، كما لم يسلم أهالي الحيّ طوال ذلك الوقت من مضايقات المستوطنين، ومن اعتداءات شرطة الاحتلال واعتقالاتها.
أما في جلسات المحاكم التي ما ما زالت تجري إلى اليوم، تتركز مرافعة محامي العائلات على رفض التسليم بالتسجيل الذي أجرته الجمعيات الوقفية اليهودية للأرض عام 1972. يقول المحامون إنّ هذا التسجيل تم بإجراءات غير منصفة، وإنّه لا يُثبت حقّ تلك الجمعيات بملكية الأرض بشكل حصريّ ونهائي. وأكثر من ذلك، يقول أبو حسين بأنّ الورقة التي يستند إليها المستوطنون لا تتعلق بالأرض الموجودة في الشيخ جراح، لوجود اختلافات بين نصّ الورقة وبين معالم الحيّ وطبيعته الطبوغرافية الجغرافيّة. على مدار السنوات الفائتة، رفضت مختلف المحاكم الإسرائيلية مناقشة سؤال الملكية، واعتبرت في كثير من الأحيان أنه سؤال ينطبق عليه معيار التقادم إذ مضى على ذلك التسجيل ما يقارب 40 عاماً.
بالتوازي مع محاولة الدفع لإلغاء الاعتراف بتسجيل الأرض لصالح الوقف اليهوديّ، قام الأخير بـ"بيع الأرض" إلى جمعيات استيطانية. في نهاية 2001، بيعت الأرض من الجهات الوقفية اليهودية لصالح جمعية استيطانية تُدعى "حُموت شلم"، أسست مطلع 2001 وحدّدت أهدافها بـ"تقوية المجتمع اليهوديّ في القدس وفي عموم أرض إسرائيل"، وذلك مقابل مبلغ زهيد-3 ملايين دولار أميركي.
بعد ذلك بوقت قليل جداً، بيعت الأرض مرة ثانيّة لشركة استيطانيّة هذه المرة، باسم "نحلات شمعون ليميتيد" المُسجلة كشركة خاصّة لدى مُسجّل الشركات الإسرائيليّة منذ أبريل 2000. بحسب التسجيل، فإنّ هدف الشركة "القيام بمختلف الأعمال القانونية"، فضفاض بما يكفي لاستيعاب الغرض الأساسي من استيطان وتهجير. يرى أبو حسين أنّ "بيع الأرض" من الجهات الوقفية اليهودية للجهات الاستيطانيّة يأتي ضمن مساعي التهرب من المساءلة حول حقيقة الملكية التي يدعيها اليهود بالأرض، وأن ذلك من أجل تعقيد سؤال البحث عن المالك الأصلي.
من جهة ثانية، فإنّ سرعة قبول التسجيل الإسرائيليّ للأرض عام 1972، واطمئنان المحاكم إلى "صحة" التسجيل ورفض نقاشه، يُشيران إلى حقيقة الجهاز القضائي والنظام القانوني الإسرائيلي باعتباره أداة استعمارية أخرى بيد حكومة الاحتلال ومستوطنيه تُساهم في تحقيق أهدافه ومخططاته. استغلت الجهات الوقفية اليهودية "قانون الشؤون الإدارية والقانونية" الإسرائيلي لعام 1970، والذي يسمح لليهود بـ"العودة" إلى أملاكهم المدعاة التي تركوها في شرق القدس بعد حرب 1948. بينما لا يسمح للفلسطينيين بالعودة إلى أي من أراضيهم التي أجبروا بقوة السّلاح على تركها إثر تلك الحرب.
ماذا ينتظر أهالي كرم الجاعوني؟
الجواب على السؤال أعلاه: ينتظرون قرارات المحاكم. وهل هناك أمل فيها؟ قليلون من سيُجيبون بنعم. ويبدو أنّ ميسون ليست واحدة منهم، لا تُعلّق أملاً ورجاءً إلا بـ"فرج ربنا". بعد أن حكت قصة خبر الإخلاء الذي لم يُمهلها حتى تتناول طعام الغذاء، قالت ميسون: "قلت لابني ما يرجع من دراسته في أميركا، بديش يصير له اشي اذا اجوا علينا بآخر الليل يخلونا..أكون في مصيبة أصير في اثنتين". عدم توقعها لقرار في صالحهم من المحاكم جعلها تقول: "أنا بس لو أعرف متى راح يخلونا.. بدال ما يجوا ويكسروا كل اشي، وينكدوا علينا..".
تحكي تلك الكلمات هواجس أمّ عاشت على مدار 30 عاماً تنتظر خبر الإخلاء، وتحكي كذلك قصة المدينة. المدينة التي يسودها الصمت مؤخراً؛ بالكاد يُثار الحديث عن تهجير الحيّ، بالكاد يتوافد النّاس والمتضامنون لشدّ أزر العائلات. شيئاً فشيئاً، يتقلص الوجود الفلسطينيّ الجمعي، ويتحوّل صاحب كل قضية إلى مناضلٍ فرديّ، يسأل أسئلته الخاصّة، ويتكفل وحده بحلّها: كيف سأحمي ابني؟ كيف سأخفف خسائري؟ كلّ يخلع شوكه بيده، والغائب: حضور جمعي متكاتف، أو مرجعية وطنية مساندة.
المصدر: متراس، 2021/1/31