ورقة عمل: الفوضى السياسية في "إسرائيل" والتحذيرات من الحرب الأهلية


تاريخ الإضافة الثلاثاء 9 آذار 2021 - 1:38 م    عدد الزيارات 2615    التحميلات 193    القسم مختارات

        


مقدمة:



شهدت الساحة السياسية والحزبية الإسرائيلية في الأسابيع الأخيرة انتشاراً لمفردات غير معهودة في النقاشات والسجالات السياسية، مثل: الحرب الأهلية، الفوضى، انهيار الدولة، وذلك بالتزامن مع استمرار الأزمة السياسية المستفحلة في دولة الكيان، وعدم وجود بصيص أمل لإيجاد حلّ لها، حتى من خلال الانتخابات المبكرة الرابعة المقررة في آذار/ مارس.

 

ومع بدء العد التنازلي لذهاب الإسرائيليين إلى صناديق الاقتراع يوم 23/3/2021، زادت حدة الاستقطابات السياسية والحزبية، وسط انتشار لافت لمفردات واتهامات بين الإسرائيليين، لم تكن سائدة في سنوات وعقود سابقة، وشمل ذلك الزعماء السياسيين، والكتّاب، والمعلقين على حدٍّ سواء، وليس هناك في الأفق ما قد يشير إلى تراجعٍ في تدهور هذا الخطاب المتداول، في مرحلة ما بعد عقد جولة الانتخابات المبكرة الرابعة، بل إن المعطيات السائدة تحفّز على مزيد من انحدار النقاشات السياسية.

 

هذه الورقة تناقش أهم ما يتداوله الإسرائيليون في نقاشاتهم: ساسة وكتاباً وجمهوراً، ولماذا دخلت هذه المفردات على سجالاتهم، وهل فعلاً تمثّل حقيقة الوضع القائم بينهم، أم أن الأمر يحتمل مبالغة وتضخيماً للمزاودات السياسية بين الأحزاب المتنافسة، وكيف يؤثر ذلك على نظرتهم لكيانهم، ورؤية العالم لهم، وأهم السيناريوهات المحتملة، وتحديد السيناريو المرجح.

 

للاطلاع على الورقة بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط:

 

أولاً: حرب “الكل في الكل”:



كان من مشاهد السجال السياسي والحزبي الإسرائيلي تمثل يوم 4 شباط/ فبراير في تقديم القوائم الانتخابية المتنافسة على مقاعد الكنيست الـ120 ، وما مثلته من حالة استنزاف للنظام السياسي الإسرائيلي، حيث بلغ عددها 39 قائمة، وعبرت عن حالة “مرضية”.[1]

 

لقد بلغ عدد القوائم الحزبية المسجلة في الانتخابات المقبلة رقماً قياسياً، على الرغم من أن العديد من أعضاء الكنيست الحاليين سيخسرون مقاعدهم بعد آذار/ مارس، خصوصاً في ضوء الانهيار المتوقع لعدد من الأحزاب، لأنها لن تجتاز نسبة الحسم، ونشوء أحزاب انشقاقية أخرى، وغياب لوجوه مركزية في الكنيست الأخيرة، لكن التغيير الدراماتيكي المتوقع في الانتخابات وفق استطلاعات الرأي الأخيرة أن قرابة خمسين عضواً في الكنيست لن يكونوا في البرلمان المقبل، بالإضافة إلى خلوه من الجنرالات العسكريين بعد إخفاقاتهم السياسية المتلاحقة، لا سيّما بيني جانتس Benny Gantz وجابي أشكنازي Gabi Ashkenazi وموشيه يعلون Moshe Ya’alon.

 

تعكس البيانات الحزبية الإسرائيلية الأخيرة حالة من الدوران الذي لا يتوقف، لأن هذا العدد اللامتناهي من القوائم الانتخابية يسهم بصورة واضحة في عدم تحديث النظام السياسي الإسرائيلي من جهة، ويجعله عرضة للاستنزاف من جهة أخرى، وفي النهاية تعطينا هذه القوائم نتيجة واضحة عن نظام سياسي مريض، يعتمد أساليب معقدة، ما قد يضر بعمل الكنيست.

 

ووفقاً لآخر استطلاع أجراه معهد الديموقراطية الإسرائيلي، فإنه تأييد الكنيست حالياً يصل بالكاد إلى نسبة 21%، فيما انخفضت الثقة في الأحزاب الإسرائيلية إلى نسبة غير مسبوقة بلغت الـ14 %. وتجلى عدم الرضا العام عن القادة الإسرائيليين لأسباب مختلفة مثل تجاهل قيود كورونا، وخروقات الإغلاق، وباتت حركة الاحتجاج اليوم أوسع بكثير وأكثر تنوعاً من سابقتها في 2011.[2]

 

وبينما انطلقت التحضيرات لإجراء العملية الانتخابية، فإن الإسرائيليين يتوافقون على أن معظم الأحزاب كشفت عن هويتها غير الديموقراطية، لأن معظمها ليس لديه برنامجاً حقيقياً، أما خطط عملها، إن وجدت، فهي جزئية وقصيرة النظر، وهذا يعني إضعاف هذه الأطر والأحزاب السياسية، مما يؤدي إلى نزعات الشخصنة، ودعم القادة الاستبداديين.

 

من السمات اللافتة في القوائم الانتخابية المرشحة للكنيست، دمج بعضها، وانقسام البعض الآخر، واختفاء البعض الثالث، وتقاعد شخصيات بارزة من السباق، وعودة آخرين، تخلوا عن التنافس فترة طويلة، إلى الظهور، تمهيداً لخوض المعركة الانتخابية.[3]

 

يُعبّر عدد القوائم المتنافسة في الانتخابات عن الانقسامات الإسرائيلية العديدة، والنفور المتزايد من السياسيين، مع أن قلة قليلة منها لها سمات تميّز الأحزاب السياسية، في حين أن النسبة الأكبر منها تفتقر للمؤسسات الداخلية المتطورة، والوجود على المستوى المحلي، والحد الأدنى من الموارد، وقبل كل شيء ليس لديها أيديولوجية متماسكة، وخطة مفصلة للتعامل مع العديد من التحديات التي تواجه المجتمع الإسرائيلي اليوم، ووصلت حالة من الضعف لدرجة باتت قادرة بالكاد على أداء دورها السياسي المركزي.

 

الخلاصة في موضوع القوائم الانتخابية أنه بالرغم من تزايد عدد المرشحين، فإن “إسرائيل” على وشك أن تصبح دولة بدون نظام حزبي متطور، صحيح أن هناك عدداً كبيراً جداً من القوائم الحزبية، والمجموعات المتخصصة، والمبادرات الشخصية، والتركيبات التي تتطلب تكويناً، لكن كلها بدائل ضعيفة جداً للأحزاب السياسية القوية، حتى إن هذه الأحزاب الإسرائيلية التي تُجري انتخابات تنافسية، كثيرٌ منها ذو ميول استبدادية، مما سيكون له عواقب وخيمة على الكيان الإسرائيلي.

 

هذا يؤكد التخوفات الإسرائيلية من ظاهرة تكرار الجولات الانتخابية المبكرة، لأنها تتسبب بتدهور القوائم الحزبية، وتركت هذه الجولات معظم الأحزاب الإسرائيلية مفلسة، مما جعل مؤسساتها هشة، وأنشطتها محدودة للغاية، وأيديولوجياتها في أحسن الأحوال غامضة، ولذلك فإن حالة الانقسامات أو الاندماجات الحزبية الإسرائيلية لن تفلح في تحسين حالة الهياكل الحزبية الفاشلة.

 

من التوصيفات الإسرائيلية اللافتة، ذات الدلالة المهمة، أن فقدان الثقة بأهم الهياكل الأساسية في الدولة يهدد حتماً قدرتها على البقاء، ويجعل حياتها السياسية أكثر صعوبة في اتخاذ القرارات، وفرض السياسات، وتبلور المزيد من الجيوب المستقلة التي لا تخضع لسيطرتها، وهذا التفكك المؤسسي أعمق بكثير مما تكشفه الصراعات حول شكل وتركيب قوائم الكنيست المقبلة، وكل ذلك يرفع أزمة التمثيل السياسي في “إسرائيل” إلى ذروتها.[4]
ثمَّة مؤشر لافت آخر، يتعلق بأن الأحزاب السياسية الإسرائيلية تخلّت عن “ديموقراطيتها” الداخلية، وباتت تعمل لصالح أفراد معينين، حتى إن بدء العد التنازلي للانتخابات دفع الأحزاب المنخرطة فيها للتخلي عن الانتخابات التمهيدية، وهذا الإجراء يعني أنها تدوس على دساتيرها التي تنص على وجوب إجراء هذه الانتخابات قبل كل حملة انتخابية، وهذه المرة الثالثة التي يتم فيها الدوس عليها، انطلاقاً من رغبات قادتها بالحفاظ على ولاء أعضاء أحزابهم، وخوفهم من منافسيهم في الأحزاب الأخرى.

 

حتى أنه بعد أيام قليلة فقط على إغلاق تسجيل القوائم الانتخابية، بدأت تختفي المظاهر الحزبية في “إسرائيل”، وتتفوق عليها شخصيات الحاخامات والقادة، وهم يتفوقون على المؤسسات الحقيقية والأعضاء الحزبيين، وتحول الزعماء السياسيون الحزبيون إلى العمل انطلاقاً من مشاريع فردية شخصية، ويجدون صعوبة بالتنقل بين مساراتها السياسية، وصولاً للتكيف مع حالة “الأنا العملاقة” التي تتملكهم.

 

وهكذا يمكن القول أن التطورات الحزبية في “إسرائيل” أوجدت حالة من التصدع بين أقطابها، تصل حدّ التهديد بدخول مواجهة مفتوحة بينها، بسبب حالة الغطرسة المتزايدة، وادعاءات التباهي التي لا تتوقف، ومزاعم كل حزب وقائد بحيازته الحصرية للعلاج الخاص بجميع مشاكل “إسرائيل”، وبدلاً من إجراء المراسيم الديموقراطية في الأحزاب الإسرائيلية، بدت الانتخابات وكأنها حفلة للمصابين بجنون العظمة.[5]

 

ثانياً: أفول عهد الجنرالات:



بينما شهد الكنيست في دوراته الثلاثة الأخيرة حضوراً لافتاً للجنرالات الإسرائيليين ممن نجحوا في السياسة، فإن التقديرات الإسرائيلية تتوافق بشأن غيابهم في الكنيست المقبل، مما قد ينذر بنهاية عصر الجنرالات في السياسة الإسرائيلية، عقب الإعلان عن تقاعد مبكر لجابي أشكنازي وزير الخارجية، وتأكيد جادي آيزنكوت Gadi Eisenkot قائد الجيش السابق عدم الانضمام لأي قائمة حزبية، والكشف أن بيني جانتس وزير الحرب لن يتجاوز نسبة الحسم في الانتخابات، بالإضافة إلى انسحاب موشيه يعلون من السباق الانتخابي.[6]

 

الغريب أنه قبل سنتين كان يُنظر لحزب أزرق – أبيضBlue and White على أنه البديل الأبرز لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu، حيث ترأسه قائد أركان الجيش السابق بيني جانتس، وانضم إليه نظيريه موشيه يعلون وجابي أشكنازي، لكن بعد سنتين فقط، أعلن الأخير أنه سيأخذ استراحة من السياسة، ولم ترتفع حظوظ جانتس في استطلاعات الرأي، واستقال يعلون من الحياة الحزبية بعد تعثراته المتلاحقة.
يظهر إخفاق العسكريين الإسرائيليين إلى أي مدى لا يفهمون “الحمض النووي” للسياسات الحزبية في “إسرائيل”، لأن آخر مهمة شاركوا فيها في حياتهم هي الجيش، على الرغم من أن السؤال يطرح عن سبب نجاح أريل شارون Ariel Sharon، وإسحاق رابين Yitzhak Rabin، وإيهود باراك Ehud Barak، هؤلاء الجنرالات الذين حكموا السياسة الإسرائيلية عدة سنوات.[7]

 

تحمل هذه الظاهرة ضمنياً بوادر تهديد وجودي لـ”إسرائيل”، الذي يكمن في التهديد الاجتماعي الموجود داخل الإسرائيليين، لأن الساسة الإسرائيليين، ومنهم الجنرالات، باتوا يقدسون الكذب، والخداع، والحيل، ووضع العصي في الدواليب السياسية، ومن يحاول الوقوف في وجههم يُنظر إليه بنوع من الاشمئزاز، مما يشكل الضربة الأكبر في وجه المجتمع الإسرائيلي اليوم.

 

ثالثاً: انتشار الفساد:



بالتزامن مع انطلاق العملية الانتخابية الإسرائيلية، تزايدت التحذيرات من ظهور “إسرائيل” غارقة بالفساد، وأصبح المزيد والمزيد من الإسرائيليين يتقبلون ظاهرة الفساد الحكومي في مؤسسات الدولة، وانتشار المزيد من القناعات الإسرائيلية بأن جميع حكامهم ومسؤوليهم فاسدون، ولا توجد شخصيات عامة نظيفة، الجميع مدفوعون بالمصالح الشخصية، وكل شيء يترجم إلى أموال كبيرة ونفوذ، وهكذا يصاب الجميع بالفساد.

 

كثير من الإسرائيليين يشاركون هذا الاعتقاد، وفي عصر الأخبار السريعة، كلما ظهرت قضية فساد إسرائيلية، هناك من يسارع لمقارنتها بدول العالم الثالث، وبات الجمهور الإسرائيلي مرتبكاً، وفي أحسن الأحوال لم يعد يعرف كيف يميّز بين الحقيقة والكذب، مع العلم أن التقديرات المتزايدة في أوساط الإسرائيليين تتحدث عن تزايد خطير في قضايا الفساد، ولوائح الاتهام الشديدة، مما يجعلهم مقتنعين بأنهم في دولة كل مسؤول فيها فاسد، ويجعل من هذا الفساد سبباً وجيهاً بما يكفي لعدم اختيار مرشح معين في الانتخابات الإسرائيلية القادمة.

 

مع العلم أن هذا “الفساد” الإسرائيلي لم يعد موجوداً فقط في الساحات الحكومية والوزارية، ولكن أيضاً في السلطات المحلية والبلديات، ولذلك تمّ انتخاب عدد غير قليل من رؤسائها على الرغم من وجود علاقة أو أخرى تحوم فوق رؤوسهم بالفساد، ولذلك فقد وصلت خطورة ظاهرة الفساد في “إسرائيل” إلى حدٍّ أن مؤشر الفساد العالمي لسنة 2020 الذي نشرته منظمة الشفافية الدولية Transparency International، حصلت فيه “إسرائيل” على درجة 60 من أصل مئة، وهي ليست بعيدة عن الخط الأحمر، وفيما يتعلق ببلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية Organisation for Economic Co-operation and Development، تظهر صورة أكثر قتامة، فإن “إسرائيل” تحتل المرتبة الـ25 من بين 37 دولة.[8]

 

الفساد الأساسي في “إسرائيل” بدأ عندما تمّ استخدام السلطة العامة بشكل غير لائق للترويج لزعيم واحد على حساب الآخرين، وخصصت موارد الدولة لساسة سيِّئي السمعة، واستخدامها لتجميع الثروات والرحلات الجوية والهدايا والأراضي والشقق، وبات يتمثل في الاستخدام غير المناسب للسلطة العامة لغرض تعزيز المصالح، والنتيجة تتمثل بتوزيع الأموال دون شفافية، بسبب انتشار المحسوبية وغياب نظام العدالة، التي يتم فيها وضع أبناء كبار المسؤولين الإسرائيليين في المناصب العليا على حساب الآخرين، حتى وصل الأمر إلى استخدام “الحريديم”، اليهود المتدينين، للسلطة السياسية لتعزيز مصالحهم.

 

وهكذا أسهمت الأنظمة والمؤسسات السائدة في “إسرائيل” بشكل كبير في تطوير الفساد فيها، في ظلّ وجود قوانين لا تمنع انتشاره، مثل إمكانية عودة شخص مُدان بجريمة مشينة إلى الحياة السياسية، ما يدفع الجمهور الإسرائيلي للتسامح تجاه السلوك الإجراميّ للفاسدين، ويعيد للحياة السياسية العامة من جلسوا في السجن، وأُدينوا بالفساد العام، ولن يتفاجأوا إذا ترشح وفاز عدد منهم في الانتخابات القادمة.[9] مع العلم أن هناك سبباً لم يعد تخطئه العين، ويتمثل بوجود محاولات للترويج لمشروع قانون إسرائيلي يضاعف الحبس على قضايا الفساد من سبعة إلى 14 سنة، لكن تمّ رفض هذه المحاولات في مرحلة القراءة الأولية في الكنيست، في حين أن القانون الذي يسمح لمرشح لديه لوائح اتهام بالترشح لرئاسة الوزراء يعطي شرعية للفساد العام، كما يفعل عدم وجود قانون يقيّد ولاية رئيس الوزراء، والنتيجة أن السلطة المتراكمة على مرّ السنين يمكن أن تؤدي للفساد العام.

 

في هذه الآونة يتهم الإسرائيليون نظامهم القضائي السائد بأنه يتسم بالبطء، ويسهم في تنامي ظاهرة الفساد، والقضايا التي يتم فتحها تبقى عالقة لسنوات عديدة في مكتب المدعي العام، وغالباً ما يتم إغلاقها بردٍّ ضعيف، وفي مثل هذه الحالات، يطور الكثير من الإسرائيليين التعاطف مع المشتبه بهم بالفساد، ويفقدون الثقة في الأنظمة القانونية بسبب سلوكها الإشكالي. حتى إن سلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في التشهير والتحريض ضدّ المؤسسات الحكومية يقدم إسهاماً كبيراً في فقدان الثقة، وعندما لا توجد ثقة في الهيئات المسؤولة عن تحديد من هو فاسد، ومن ليس فاسداً، فإن الوضع يمكن أن يتدهور في “إسرائيل”، وهو الحاصل فعلاً، والنتيجة أن هذا الفساد الذي بات ينخر في مؤسسات الدولة، ودوائر صنع القرار فيها، وغياب مظاهر الشفافية، يمكن أن يؤدي إلى عدم تعاون الجمهور الإسرائيلي، على الرغم من أنه يشكل خطراً على مستقبل “إسرائيل”.[10]

 

رابعاً: الكراهية بين الإسرائيليين:



يحذر الإسرائيليون من تفاقم حالة الكراهية الداخلية داخل المجتمع الإسرائيلي؛ لأنها ستؤدي بهم إلى الهاوية، وباتت “إسرائيل” نفسها تشهد انتشاراً غير مسبوق لما بات يوصف “وباء” الكراهية الداخلية، وفيما يسقط وباء كورونا آلاف الإسرائيليين، ويشل اقتصادهم بشكل شبه كامل، ويغير أسلوب حياتهم، فقد فشلت “إسرائيل” في محاولة الحفاظ على “وحدتها الوطنية” فشلاً ذريعاً.

 

يجد الإسرائيليون أنفسهم يعيشون مرة أخرى في دوامة مشتركة من الوباء والانتخابات، وكأنهم يحيون حالة من الجنون الحقيقي، دفعت أوساطهم السياسية لرفع البطاقة الحمراء، والتذكير بأنهم في الطريق إلى الهاوية، بسبب الكراهية الداخلية المتزايدة، وتمّ التعبير عنها بالفعل في العنف الجسدي في الشوارع، في هذه الحملة الانتخابية المثيرة.[11]

 

وتعتقد الأوساط الإسرائيلية أن “ذروة الكراهية” للحملة الانتخابية المقبلة ما زالت تنتظرهم، لأن أحداث الأيام الأخيرة أثبتت أن هذا هو الشكل الذي ستبدو عليه الانتخابات، لأنه سيحمل الكثير من الكراهية والانقسام، والإسرائيليون الذين يستيقظون على واقعهم الأليم، لأن هذا ما تبدو عليه ديموقراطيتهم “القبيحة”، وبات واضحاً أن “قمة الوقاحة” ما زالت أمامهم.

 

في الوقت نفسه، فإن دوائر الكراهية بين الإسرائيليين أوسع بالفعل مما يرونه الآن، لأنها تحمل كثيراً من مؤشرات الاشمئزاز والازدراء الذي يظهره ناخبو الأحزاب الإسرائيلية لبعضهم البعض، بعد أن دأبوا في الآونة الأخيرة على وصف منافسيهم بالعديد من التعبيرات الفظة، وكأنهم أمام طغمة عسكرية لا يمكن إيقافها، تريد العودة إلى السلطة في “إسرائيل”، بأيّ ثمن، حتى لو كان من خلال تشويه سمعة المعسكر الموازي.

 


علماً بأن النتيجة المتوقعة لما يشهده الإسرائيليون من مظاهر الكراهية والتفسخ الداخلي تتمثل في أنهم باتوا يخشون ذهابهم إلى قاع الهاوية، وإمكانية تجدد الحرب الأهلية التي حذر من اندلاعها مناحيم بيجنMenachem Begin ، رئيس الوزراء الراحل، لأن إمكانية تجدد حوادث العنف الداخلي بينهم ستكون نتيجتها النهائية نقلهم إلى هوامش التاريخ، وهذه كلها مفردات إسرائيلية.[12]

 

وقع حدث عالمي لافت تزامن مع التوترات الإسرائيلية الداخلية عشية الذهاب إلى الانتخابات، وهو اندلاع “أحداث الفوضى” التي شهدها مبنى الكونجرس الأمريكي United States Capitol قبيل ساعات من تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن Joe Biden في كانون الثاني/ يناير 2021، وقد أعادت هذه الأحداث الأمريكية إلى أذهان الإسرائيليين اغتيال رئيس وزرائهم الراحل إسحق رابين في 1995.

 

وتؤكد هذه المعطيات أن “إسرائيل” تعاني من “تصدع” أصاب مجتمعها، وهدده بالتقسيم، مما يشكل تحدّياً من الدرجة الأولى، وقد يشعل النار من جديد، لأنها تشهد شقاقاً اجتماعياً عميقاً، وجمر الكراهية أشعلها لعدة سنوات، وأسفر عن تآكل مستمر لمؤسسات الدولة والمحكمة العليا Supreme Court of Israel، مما سيساعد في إشعال هذه الكومة النارية بأكملها.[13]

 

ذروة مؤشرات الكراهية تجاوزت حدّ الاتهامات الإسرائيلية المتبادلة بالتقصير في شؤون الدولة، بل وصلت إلى استخدام مفردات كانت تقع إلى عهد قريب تحت طائلة التشهير والقذف، لكنها باتت اليوم متداولة بصورة شبه يومية، ومنها اتهام إيهود أولمرت Ehud Olmert رئيس الوزراء الأسبق لنظيره الحالي بنيامين نتنياهو، بأنه “محتال، ومستعد لبيع الدولة مقابل وجوده السياسي والشخصي، وهو رئيس وزراء فاشل ومدمر وماكر، ويدير عصابة إجرامية، وبات شخصية مقززة وغير مقبولة”، على حدّ وصفه.[14]

 

خامساً: الخطر الوجودي:



دفعت مؤشرات الكراهية المتزايدة بين الإسرائيليين إلى صدور تحذيرات من كبار الجنرالات من سيناريوهات قاتمة تحيط بمستقبلهم، في ظلّ ما وصفوه بـ”الفجوات الكبيرة بين مختلف مكوناتها الاجتماعية”، معتبرين ذلك أكثر خطراً من حرب تقليدية قد تشن عليهم، بما في ذلك أخطر السيناريوهات المتوقعة التي قد تهددهم، والقاسم المشترك بينها هو التوقعات الصعبة القاسية على مستقبلهم، وصولاً لما يشبه تهديداً وجودياً ضدهم.

 

لا يتورع الإسرائيليون، وهم يرون مشاهد الخطر الذي يهدد دولتهم، عن محاكاة ما عايشوه من هزيمة مروعة خلال حرب 1973، حين وصلت لمستويات غير مسبوقة من الإحباط واليأس، وتسللت الهزيمة العسكرية للوعي الداخلي في نفوسهم، حول مسألة بقاء الدولة من عدمه، وأوجد البيئة الخصبة لظهور ما يعرف بـ”الأدب البائس”، ويتساءلون: “هل تعيش إسرائيل اليوم ذات المرحلة؟”.

 

من الشواهد التي يستند إليها الإسرائيليون في التحذير مما يعيشونه من أحداث خطيرة، استخدامهم لمفردات “الكارثة القادمة” نحو “إسرائيل”، وأنها ستجد نفسها بعد بعض الوقت “على حافة الهاوية”، في ظلّ اتساع الفجوات الاجتماعية بينهم، وما قد تحدثه من “انفجار داخلي كبير”، يدخل “إسرائيل” في حالة من “التيه والهاوية”، على الرغم من تفوقها العسكري والاقتصادي والنوعي، لكن جبهتها الداخلية تشهد “انقسامات وتشققات” لم تعهدها من قبل في تاريخها، وقد باتت تجد نفسها اليوم في “حالة تراجع”.

 

المزيد من الشواهد المقلقة تتمثل في “اتساع الفوارق والفجوات” في المجتمع الإسرائيلي، والوضع الاجتماعي والسياسي “الهش للغاية”، وهو “آخذ بالتطرف” مع مرور الوقت، فهناك فجوات داخل مجموعات اجتماعية متعددة، وخلافات بين الحكومة وجهات تطبيق القانون، ومحاولات للمس بالجهاز القضائي.[15]

 

تتضافر الأوضاع الداخلية في “إسرائيل” لتجعل من “إسرائيل” دولة ليست عاقلة، بل تعيش حالة من الفوضى، ويقرّبها أكثر من أي وقت مضى إلى انفجار القنبلة الموقوتة فيها، بسبب انهيار نظامها السياسي، واستبداله بالفوضى الكاملة.[16]

 

من مشاهد الحالة المزرية التي تعيشها “إسرائيل” ما يطلق عليه البعض من تحذيرات بشأن “موت الأيديولوجيا”، وانتشار الفوضى فيها، وهذا يشمل جميع الأحزاب: الليكود Likud، ويوجد مستقبل (يش عتيد Yesh Atid)، وأزرق – أبيض، و”إسرائيل بيتنا”Yisrael Beiteinu ، وحزب العمل Labor Party، ويمينا Yemina، جميعهم متشابهون وغير مبالين، وباتت السياسة الإسرائيلية بلا منصة حقيقية، بل أصبحت مملة، وباتت تشهد المزيد من الاضطرابات، والكشف عن نقاط ضعف وفشل لحكومتها، وإنذاراً باضطرابات محتملة.

 

حصلت الاضطرابات التي شهدتها “إسرائيل” في عقود سابقة بين معسكرات اليمين والوسط والمتدينين، لكن صراعاتها هذه الأيام ليست بين اليمين واليسار، وبين الأيديولوجيات المختلفة والمتعارضة والمتضاربة، بل ببساطة مع نتنياهو أو ضده، ومعركتها السياسية اليوم ذات أبعاد شخصية، والنقاش الوحيد المتبقي هو حول “من سيكون سائق المركبة، دون حديث عن السيارة والأمتعة”.

 

الوضع الذي تعيشه “إسرائيل” يشبه الرمال المتحركة، وهبطت التطورات المتلاحقة على ساستها مثل العاصفة، وظهرت مئات الآلاف من الأصوات التي ليس لها انتماء سياسي، وباتت بحاجة ماسة للولاء الأيديولوجي، لأنها تذهب مع الأسماء والأشخاص، بدلاً من الانحياز للأفكار السياسية، ولذلك فإن السؤال الإسرائيلي المهم، ليس ما إذا كان نتنياهو سيفوز مرة أخرى في الانتخابات أم سيخسر، لكن السؤال الأكثر أهمية: لماذا تخلت “إسرائيل” عن الجدل الأيديولوجي؟

 

نتيجة لتلك التطورات السياسية المتلاحقة، فإن الخريطة السياسية والحزبية لم تشهد أبداً مثل هذه الفوضى، من التحركات السياسية الملتوية، والتواصل، والانفصال، والانضمام، والمغادرة، واليوم فإن غالبية الإسرائيليين لا يديرون نقاشاً مثمراً حقيقياً دون إهانات وألفاظ نابية، مما يؤكد أن الجمهور الإسرائيلي يعيش اليوم أجواء مستمرة من العاصفة، بسبب المعسكرات السياسية والحزبية اليائسة، وغير المبالية بالنقاشات الأساسية، خصوصاً مع زيادة الفجوات الاقتصادية والاجتماعية التي تقسّم المجتمع الإسرائيلي، لذلك فإن تأسيس الأحزاب الإسرائيلية الجديدة لم تركّز على البرامج الأيديولوجية، بل اكتفت بالتسويق الشخصي لقادتها.[17]

 

إن تزامن ذهاب الإسرائيليين إلى الانتخابات المبكرة الرابعة مع انتشار رائحة كريهة من الأحقاد والضغائن، بالتزامن مع تفكك الأطر، والهجمات المتبادلة، ومفردات التلاوم الثنائية، وبكثافة عالية، ليس فقط بين التحالف والمعارضة، وهو أمر يحدث بشكل روتيني، ولكن داخل التحالف الحكومي نفسه، يهدد بأخطار تفوق انتصار حزب على آخر.[18]

 

خاتمة:



مع اقتراب الإسرائيليين من استحقاقهم السياسي والحزبي الخاص بالإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع أواخر آذار/ مارس، يمكن طرح جملة من السيناريوهات المتوقعة للمشهد الإسرائيلي على صعيد المحاور الواردة أعلاه:


1. استمرار حالة الاستقطاب السياسي والحزبي إلى حين ممارسة الحق الانتخابي في آذار/ مارس، ومن ثم العودة التدريجية إلى النقاشات السياسية العادية، التي لا تحمل تهديدات أو تشويهات.

 

2. إمكانية فشل الانتخابات في طيّ صفحة الخلافات الداخلية، على العكس من ذلك، فإن نتائج الانتخابات، وعدم قدرة أي حزب أو تيار على تشكيل حكومة انفرادية، سيصب مزيداً من الزيت على نار التوتر الداخلي، وهو المرجح.

 

3. تعوّد الإسرائيليون على هذا الشكل من النقاشات السياسية والسجالات الحزبية، الأمر الذي قد يعبّد الطريق لحدوث اضطرابات عنيفة ميدانية، قد تصل ذروتها إلى ثاني اغتيال سياسي في “إسرائيل”، بدأت تحذر منه المحافل الأمنية.

 

الهوامش:

 

[1] عوفر كونيغ، أعداد غير مسبوقة من القوائم الانتخابية المسجلة، موقع إسرائيل اليوم، 5/2/2021، انظر: https://www.israelhayom.co.il/article/847895 (باللغة العبرية)

[2] المعهد الإسرائيلي للديموقراطية، لمن سيصوت الإسرائيليون في الانتخابات، 7/2/2021، انظر: https://www.idi.org.il/articles/33597 (باللغة العبرية)

[3] دفنا ليئيل، القوائم الانتخابية والمرشحون، القناة العبرية 12، 4/2/2021، انظر: https://www.mako.co.il/news-israel-elections/2021/Article-27611dfff776771027.htm?Partner=rss (باللغة العبرية)

[4] نعومي حزان، الأزمة السياسية في إسرائيل تصل ذروتها، موقع زمن إسرائيل، 5/2/2021، انظر: zman.co.il (باللغة العبرية)

[5] شموئيل روزنر، الانقسامات والائتلافات في الانتخابات الإسرائيلية، هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني الإسرائيلي، 1/2/2021، انظر: https://www.kan.org.il/Item/?itemId=99394 (باللغة العبرية)

[6] شالوم يروشاليمي، ليس كل جنرال ملزم بدخول المجال السياسي والحزبي، موقع مكور ريشون، 3/1/2021، انظر: https://www.makorrishon.co.il/opinion/298937/ (باللغة العبرية)

[7] روني دانيئيل، لهذا السبب يخفق الجنرالات الإسرائيليون في الحياة السياسية، موقع معاريف، 31/12/2020، انظر: https://www.maariv.co.il/news/politics/Article-811997 (باللغة العبرية)

[8] نيتسان شافير، موقع إسرائيل في مؤشر الفساد العالمي، مجلة غلوبس الاقتصادية، 28/1/2021، انظر: https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001358728 (باللغة العبرية)

[9] ليئور ديتال، إسرائيل أكثر فسادا من دبي، وتشبه بروناي ودار السلام، موقع ذي ماركر، 28/1/2021، انظر: https://www.themarker.com/news/.premium-1.9487461 (باللغة العبرية)

[10] كيرن أوزين، تحذيرات من التبعات السياسية لانتشار الفساد، معاريف، 29/1/2021، انظر: https://www.maariv.co.il/journalists/Article-818402 (باللغة العبرية)

[11] يوسي أحيمائير، الكراهية الداخلية بين الإسرائيليين تأخذهم نحو الفوضى، معاريف، 25/1/2021، انظر: https://www.maariv.co.il/journalists/opinions/Article-817328 (باللغة العبرية)

[12] تومار ميكلزون، الحرب الأهلية هنا في إسرائيل، ولا أحد يوقفها، موقع هاماكوم، 5/10/2020، انظر: https://www.ha-makom.co.il/post-tonmer-new-opef/ (باللغة العبرية)

[13] تال شاليف، أجواء الانقسام تخيم على الانتخابات الإسرائيلية، موقع ويللا الإخباري، 5/2/2021، انظر:https://elections.walla.co.il/item/3416218 (باللغة العبرية)

[14] يسرائيل باخار، هل انتهى عهد نتنياهو، معاريف، 1/1/2021، انظر: https://www.maariv.co.il/news/politics/Article-812243 (باللغة العبرية)

[15] شاحار إيلان، الفجوات الاجتماعية تزداد في إسرائيل، موقع صحيفة كالكاليست، 10/12/2020، انظر: https://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3880473,00.html (باللغة العبرية)

[16] آرييه شافيت، ماذا لو كانت إسرائيل دولة نظيفة، مكور ريشون، 18/12/2020، انظر: https://www.makorrishon.co.il/opinion/293941/ (باللغة العبرية)

[17] نحمان شاي، موت الأيديولوجيا في إسرائيل، صحيفة يديعوت أحرونوت، 14/12/2020، انظر: https://www.ynet.co.il/news/article/rJj7400mhD#autoplay%20 (باللغة العبرية)

[18] ماتي توكفيلد، ضغوط متزايدة في الليكود للانفصال عن أزرق – أبيض، إسرائيل اليوم، 28/11/2020، انظر: https://www.israelhayom.co.il/article/823795%20 (باللغة العبرية)

 

 

المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2021/3/8 

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



علي ابراهيم

عام من "الطوفان" وما شجن في النفس والعالم!

الثلاثاء 8 تشرين الأول 2024 - 10:54 م

لو سألنا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أيَّ خبير إستراتيجي أو محلل سياسي، عن التغييرات الكبرى في العالم، والصراعات القادمة فيه، لتحدث عن ملفات عديدة، ابتداء بالصراع الروسي والأوكراني، وتحجيم ا… تتمة »

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »