مؤسسة القدس تشارك في مؤتمر: دور مراكز الدراسات في مواجهة تحديات الأمة

تاريخ الإضافة الأربعاء 12 تموز 2006 - 10:38 ص    عدد الزيارات 11841    التعليقات 0    القسم أخبار المؤسسة

        


4-7-06


شاركت مؤسسة القدس الدولية في "المؤتمر الفكري السياسي" الذي أقامه مركز دراسات الوحدة الإسلامية التابع لتجمع العلماء المسلمين في لبنان بعنوان: دور مراكز الدراسات في مواجهة تحديات الأمة، وذلك في 27 حزيران 2006 في بيروت.

قدمت أبحاث عديدة خلال المؤتمر وقد جاءت مشاركة مؤسسة القدس في المحور الثاني: محطات على طريق المواجهة، في الشق المتعلق بالدور المسيحي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وقد مثلت المؤسسة في المؤتمر الدكتورة سناء حمودي.

شارك في المؤتمر عدة مراكز أبحاث هي: صاحب الدعوة مركز دراسات الوحدة الإسلامية، المركز الدولي لقضايا الإسلام والعولمة، معهد المعارف الحكمية للدراسات، المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية، المركز الاستشاري للدرسات والتوثيق، مركز بيت المقدس للثقافة والإعلام، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، مركز باحث للدراسات، مركز الدراسات الاستراتيجية، مركز الحضارة للدرسات الإيرانية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، وقسم الإعلام والأبحاث في مؤسسة القدس الدولية.
---------------------------------

                          الدور المسيحي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال
إعداد: د. سناء حمودة

تمتاز فلسطين بكونها وطناً للديانات السماوية، وهي إرادة الله، التي جعلت من هذا البلد بقعة مباركة لتعايش الأديان قبل أن تدنسها الأطماع الصهيونية. إلا أن فلسطين من ناحية ثانية اختلفت عن أقرانها من الدول العربية حين كتب لها ولشعبها أن تواجه الانتداب الأوروبي والخطر الصهيوني معاً.

وفلسطين هي مهد الديانة المسيحية، ففي بيت لحم ولد السيد المسيح ونشأ في الناصرة، وجاءت تعاليمه بداية لعهد جديد مناقض كل التناقض لطبيعة عصر بني إسرائيل، ومن فلسطين انطلق تلاميذ السيد المسيح يبشرون بالديانة الجديدة، وفي فلسطين، وعلى الرغم من مقاومة اليهود لانتشار المسيحية من جهة، وعلى الرغم من التعصب الوثني لدى الآخرين من جهة أخرى، وعلى الرغم من اضطهاد الرومان العام للمسيحيين، فقد اخذت المسيحية تنتشر في الضواحي والقرى، ثم بنيت الكنائس ورفعت الصلوات في عهد الامبراطور قسطنطين، وقد أمرت الملكة هيلانة ببناء كنيسة القيامة في القدس، وكنيسة المهد في بيت لحم. وهكذا انتشرت المسيحية على أرض فلسطين كلها بعد ميلاد السيد المسيح بثلاثة قرون.

وإذا عدنا نقلـّب صحفات التاريخ، إلى يوم دخل صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس عام 1187م، نرى إلى جانبه الأرثوذكس العرب بقيادة الكاهن يوسف بابيط الذي عمل مستشاراً له، وقد فصل صلاح الدين فصلا نهائياً بين المسيحيين المحليين من العرب وغيرهم من المسيحيين الإفرنج، وبينما كان من الطبيعي أن يغادر الإفرنج المدينة بوصفهم محتلين، حرص صلاح الدين في المقابل على عودة المسيحيين العرب إلى مدينتهم. هذا الأمر إن دل على شيء، فهو يعني أن المسيحيين في فلسطين كانوا ولا يزالون جزءاً لا يتجزأ من شعب وتاريخ فلسطين.

وبما أننا معنيون في هذه الورقة، بالحديث عن دور المسيحيين في فلسطين في مقاومة الاحتلال، فقد وجدنا من الأنسب تناول هذه المسألة خلال مرحلتين: الأولى قبل النكبة والثانية بعدها.

أولا- المرحلة الأولى: قبل نكبة 1948
في أواخر العام 1917 دخلت فلسطين مرحلة تاريخية جديدة تحت عنوانين بارزين: الأول كان صدور وعد بلفور والثاني دخول الجنرال اللنبي إلى القدس معلناً دخول فلسطين تحت الحكم العسكري البريطاني، ومع انتقال فلسطين من الحكم العثماني إلى الاحتلال الأوروبي، بدأ الفلسطينيون يدركون خطورة المرحلة، خاصة بعد تكشّف طبيعة النوايا الأوروبية التي كانت تهدف إلى تقديم فلسطين وطناً لليهود. فسرعان ما استفاق العرب من أحلامهم التي رسمها لهم البريطانيون والفرنسيون، وبدأوا يعدون العدة لعهد جديد من المواجهة والنضال.
يتوزّع سكان فلسطين حسب الطوائف، إلى مسلمين ومسيحيين ويهود. وقد توزّع المسيحيون بدورهم إلى الطوائف الأرثوذكسية (وتضم الأرمن أيضاً) والكاثوليكية (وتضم الموارنة واللاتين أيضاً) والإنجيلية. وبحسب الإحصاءات التي تمت في عهد الانتداب البريطاني فإن الأكثرية السكانية كانت من المسلمين بينما لم يشكل المسيحيون إلا أقلية لا تتجاوز 12%. وبحسب إحصاءات المكتب المركزي للإحصاء والمصادر الطبيعية التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي تم عام 1993، فإن نسبة المسيحيين باتت لا تتعدى 8% من مجموع السكان. أما الملفت في جميع الإحصاءات، أن السكان المسيحيين في فلسطين، كانوا يندرجون دائماً تحت خانة السكان العرب إلى جانب المسلمين بينما تظهر نسبة اليهود منفصلة، أي أن الفلسطينيين هم شعب عربي بمسلميه ومسيحييه.

إنطلاقة العمل الوطني الفلسطيني: كانت بداية العمل الوطني الفلسطيني سريعة بعد دخول فلسطين تحت الإدارة العسكرية البريطانية، فتم الإعلان عن تشكيل الجمعيات الإسلامية – المسيحية التي تعتبر أول هيئة فلسطينية سياسية مقاومة في فترة الانتداب البريطاني، وبالرغم من عدم تمكن هذه الجمعيات من القيام بدور قوي وفاعل نتيجة أوضاع متعددة، إلا أنها شكلت نواة لتجمع وطني فلسطيني من مسلمين ومسيحيين في مواجهة الاحتلال والأطماع الصهيونية تحت شعار المعارضة الشعبية للحركة الصهيونية، وقد جاء في منشور صدر عن الجمعية الاسلامية المسيحية إبان زيارة لجنة كينغ – كراين إلى فلسطين عام 1919: "إننا نرفض كل الرفض السماح بأن تتحول فلسطين إلى وطن قومي لليهود، ونحن لا نسمح كذلك لأي يهودي بالهجرة إلى بلادنا ونحتج بقوة على الحركة الصهيونية، أما اليهود المحليون الذين كانوا يقطنون فلسطين من قبل فينبغي اعتبارهم مواطنين يتمتعون بالحقوق والواجبات التي نتمتع بها".

أما لجنة كينغ – كراين فقد استخلصت في دراستها أن معظم سكان فلسطين من مسلمين ومسيحيين على السواء، أعربوا عن رغبتهم بالحفاظ على وحدة بلادهم مع سوريا، وظهر واضحاً أن المسلمين والمسيحيين معاً، هم ضد الصهيونية بالإجماع. -1-

وقد تحدث الجنرال ستورس، حاكم القدس العسكري، في أحد تقاريره عن التضامن الإسلامي المسيحي وعن موقفهم الموحد، كما لاحظ بأن العداء المشترك للصهيونية قد عزز التضامن بين الطرفين.
يعتبر تشكيل الجمعية الإسلامية – المسيحية إحدى الظواهر الهامة التي برزت مع بداية النهضة القومية العربية الفلسطينية، فقد جاءت معاكسة لمقولة إنعزال المسيحيين عن الحياة العامة من ناحية، ومن ناحية ثانية كان جواباً على محاولات السلطات البريطانية الساعية إلى إشعال الفتنة الطائفية بين الفلسطينيين. وعلى هذا الصعيد، يروي إميل الغوري، وهو فلسطيني مسيحي أرثوذكسي، أن بريطانيا كانت تعتقد أن المسيحيين في فلسطين سيقفون إلى جانبها ويؤيدون برنامجها، فهي دولة مسيحية، وملكها "حامي الإنجيل"، فلا بد إذاً أن يدافع المسيحيون عن سياسة دولة مسيحية، وكان البريطانيون يظنون أن المسيحيين بوصفهم أقلية، لا بد أن يتعاطفوا مع الأقلية اليهودية، لهذا راحت الحكومة البريطانية تحاول إيهام المسيحيين بأنها دولة مسيحية صادقة وواجبها الأول الاهتمام بمصالحهم وكيانهم وصيانة حقوقهم ومقدساتهم، ولكن جهودها ذهبت سدى، وكان تشكيل الجمعيات الإسلامية – المسيحية الرد الأنسب والأفعل ضد السياسة البريطانية.

كان لرجال الدين الدور الأبرز في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، فكما قاد الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الحركة الوطنية الفلسطينية جامعاً بين الدين والسياسة وفاتحاً أبواب المجلس الإسلامي الأعلى أمام الوطنيين الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين، كان في الجانب المقابل دور لرجال الدين المسيحيين في هذا المجال. 

كان مطران الروم الكاثوليك غريغوريوس حجّار من الذين اشتهروا بالفصاحة وقوة البيان والمقدرة الخطابية، حتى سماه الفلسطينيون "مطران العرب". وقد ألقى خطاباً عام 1924 أمام الشريف حسين بن علي ملك الحجاز يهنئه بصدور فتوى من الحاج أمين الحسيني يبايعه فيها خليفة للمسلمين، فقال المطران حجار "باسمي، وباسم المسيحيين الفلسطينيين الذين لي شرف تمثيلهم، أقف أمامكم لأعلن لكم بأننا نحن نصارى فلسطين عرب نتمسك بأرضنا وندافع عنها، ونحن سكان الأرض الأصليين، وقد عشنا مع إخواننا المسلمين طيلة قرون بأمانة ومحبة، ونريد أن نكمل هذه الحياة معاً لنجاهد ضد المؤامرات التي تحاك على وطننا. لقد كان إسلامكم من أيام عمر بن الخطاب يعاملوننا معاملة الأخ لأخيه، ولا نريد أن يتغير شيء فيها". -2-

وفي عام 1934 عندما بدأ المجلس الإسلامي الأعلى بشن حملة تستهدف المشاركين في بيع الأراضي العربية لليهود، قام رجال الدين المسيحيون باتخاذ خطوات مماثلة، فعقد مؤتمر لرجال الدين المسيحيين العرب الأرثوذكس في القدس حضره 37 كاهناً أرثوذكسياً، ودام انعقاده ثلاثة أيام أعلن المؤتمر في نهايته "تمسكه بالميثاق الوطني الفلسطيني" الصادر عام 1922، وقرر المؤتمر رفض الخضوع للأنظمة والقوانين الموضوعة لقهر العرب وإضعافهم وإكراههم على بيع الأراضي، وعدّ هذه المقاومة فرضاً دينياً على كل عربي، وقرر أيضاً أن أي مسيحي يبيع أرضاً أو يتوسط لبيعها إلى الصهيونيين خائن لدينه ووطنه ولا يصلىّ عليه ولا يدفن في مقابر المسيحيين".-3- أما اللافت في سيرة حياة المطران غريغوريوس حجّار، أنه كان من أصدقاء الشيخ عزالدين القسّام، وكان يساهم في تأمين التبرعات للشيخ القسّام، ونقلا عن أحد القسّاميين، موسى حوراني، الذي أكد باعتزاز مشاركة المطران حجار قائلا: "الطائفية لم تكن موجودة أبداً عندنا في فلسطين". -4-

لا بد أن نذكر هنا دور الأرمن في فلسطين، الذين وإن لم يكونوا عرباً إلا أنهم أبدوا دائماً تضامنهم مع العرب في فلسطين خاصة أثناء حرب 1948 وقدموا كل التسهيلات الممكنة للجنود العرب. وقد تحمل الأرمن خسائرهم بصبر، خاصة عندما أقدم اليهود على قصف ساحة دير الأرمن في مدينة القدس بقنبلة بينما كان الناس خارجين من الصلاة فأدت إلى مقتل وجرح العديد منهم. -5- وقد عينت السلطة الفلسطينية مؤخراً الدكتور مانويل حساسيان، الفلسطيني الأرمني، سفيراً لفلسطين في المملكة المتحدة.

هذا بالنسبة إلى رجال الكنيسة، فماذا عن الشباب المسيحي؟ خلال سنوات الانتداب البريطاني انخرط شباب فلسطين في النوادي والأحزاب السياسية التي نشأت خلال تلك المرحلة. وكان من بينهم شخصيات مسيحية بارزة، أمثال إميل الغوري الذي كان عضواً في الحزب العربي الفلسطيني وعمل مساعداً للحاج أمين الحسيني، وفؤاد سابا الذي كان من بين أعضاء اللجنة العربية العليا المنفيين إلى جزيرة سيشيل عام 1937. ونخص بالذكر هنا أيضاً المحامي حنا عصفور، الذي كان يفتخر بالقول: "أنا من تلاميذ القسام"، تحدّث كثيراً عن ذكرياته في تلك الفترة، يقول: "عرفت الشيخ القسّام أكثر، وأنا أستمع إلى رجاله الذين دافعت عنهم، وهم بين جدران السجن يتحدثون عنه". -6-

ماذا الآن عن الشباب المقاوم؟ خلال سنوات المقاومة ضد الانتداب البريطاني والصهيونية، تكبّد الشعب الفلسطيني آلاف الشهداء الذين سقطوا في مواجهة الخطرين. وكان من بين هؤلاء الشهداء شباب مسيحيون نذكر منهم على سبيل المثال: أنطوان داوود الذي نسف الوكالة اليهودية بالتعاون مع عبد القادر الحسيني، وتمت العملية حين أخذ داوود سيارة القنصل الأميركي وقام عبد القادر الحسيني بتعبئتها بالمتفجرات، ثم سلمها إلى أنطوان داوود الذي دخل الى قلب ساحة الوكالة اليهودية، وأشعل الفتيل وهرب، وأطلقت النار عليه، واستطاع أن يهرب بين الأسلاك حتى أفلت ونجا.

شهيد آخر من أبناء مدينة عكا، نبيه عويك. كان يعمل في البوليس البريطاني، وكان مسؤولا عن سكة الحديد، على مدخل حيفا، وأثناء المعارك عام 1948، قاتل مجموعة من اليهود بسلاحه ذخيرته موقعاً بهم خسائر كبيرة حتى استشهد وهو يقاوم.

إذاً، فخلال سنوات الإنتداب البريطاني تبدو المشاركة المسيحية الوطنية فاعلة جداً في شتى الميادين، حتى أن نسبة النخب المسيحية المشاركة في العمل السياسي فاقت النسبة السكانية للمسيحيين خلال تلك السنوات، فنسبة المسيحيين كانت تصل إلى 23%، وهي حوالي ضعف نسبتهم في مجموع السكان، والتي لم تتجاوز يوماً نسبة 12%. -7- وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على جدية المشاركة المسيحية في العمل الوطني والقيادي الفلسطيني خلال تلك الفترة.

ثانياً - المرحلة الثانية: بعد النكبة
بعد العام 1948، بدأ الفلسطينيون مرحلة جديدة في النضال، لكن هذه المرة من أجل التحرير بعد أن أصبح معظم أبناء الشعب الفلسطيني خارج حدود فلسطين، وبدأ عهد آخر من عهود المقاومة الفلسطينية، وبدأت الأمور تتضح أكثر مع ظهور التنظيمات الفلسطينية المختلفة التي ضمت الشباب الفلسطيني من مختلف الاتجاهات، خاصة بعد نكسة عام 1967، وكان الشباب المسيحي من بين هؤلاء الذين اتخذ قسم كبير منهم أسماء حركية، وهذا ما جعل التمييز بينهم وبين إخوانهم المسلمين أمراً صعباً، وبما أنه لا مجال في هذه الدراسة للتوسّع كثيراً، ونكتفي هنا ببعض الأمثلة لإعطاء فكرة واضحة عن الدور المسيحي.
من منا لا يعرف جورج حبش، ابن مدينة اللد، الطبيب، الذي حولته مأساة فلسطين من طبيب إلى مقاوم ومؤسس لحركة القوميين العرب في بداية الخمسينات من القرن الماضي، ثم أميناً عاماً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فيما بعد، وهو الذي شارك مع الدكتور وديع حداد، المسيحي أيضاً، بعمليات تركت آثارها العميقة على العمل النضالي المقاوم.
وبما أن للكلمة في أحيان كثيرة دوياً يماثل دوي السلاح، فهي بلا شك عمل من أعمال النضال والمقاومة التي كانت تقلق الصهاينة. لهذا عملت السياسة الصهيونية على محاربة وملاحقة واغتيال من استطاعت من أصحاب الكلمات المدويّة المناضلة في سبيل الحق الفلسطيني، حيث كان لأبناء فلسطين المسيحيين نصيب من هذه الأعمال الغادرة. فقد اغتالت يد الغدر كمال ناصر المسيحي البروتستانتي، السياسي والشاعر، مع رفيقيه كمال عدوان وأبو يوسف النجار في العام 1973، وقد كان يلقبه زملاؤه بـ "ضمير الثورة"، ومن منصبه كرئيس لدائرة الإعلام الفلسطيني الموحد عمل جاهداً على توحيد العمل الفلسطيني الوطني، وتمكن إيهود باراك في نيسان 1973 من إسكات هذا "الضمير" برصاصات أطلقها عليه شخصياً. أما الدكتور أنيس صايغ، مدير مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية على مدى سنوات، فإن اليد الصهيونية وإن لم تتمكن من قتله، إلا أن محاولة اغتياله عام 1972، التي أحدثت إصابات عميقة في الجسد، تركت، من ناحية ثانية، تصميماً أكبر وأشد على مواصلة النضال، أما المطران هيلاريون كبوجي، فقد شكل ظاهرة مهمة في نضال العرب التحرري، ومبدأه أن القضية الفلسطينية هي مأساة شعب مظلوم ومضطهد، والدين بريء من رجل الدين إن لم يدافع عن المظلوم حسب تعبيره، فقد عمل بهذه الأمثولة، فكان رجل الدين المقاوم والمدافع عن الحق. وكان الأسقف كبوجي قد اتهم من قبل الإسرائيليين عام 1974 بتهريب الأسلحة إلى المغاوير الفلسطينيين في صندوق سيارته، مما أدى إلى اعتقاله وسجنه لفترة طويلة ولم يفرج عنه إلا بعد التدخل الشخصي من قبل البابا بولس السادس، وعندها التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، وفي أحد تصريحاته عام 1994 قال: "جنّدت نفسي لخدمة فلسطين لأن المسيح هو الفدائي الأول، وعلى التلميذ أن يسير على خطى معلمه، وأنه لا خيار للعرب للعيش بكرامة سوى بتحرير الأراضي المحتلة". -8-

حالياً تضم الساحة الفلسطينية عدداً من الفلسطينيين المسيحيين الذين يقومون بدورهم الوطني من دون الالتفات إلى عامل الدين. ويضم المجلس التشريعي الفلسطيني عدداً من هؤلاء، أبرزهم: الدكتورة حنان عشراوي التي برز اسمها بعد اندلاع الانتفاضة الأولى في العام 1987. كما أن الوزارات الفلسطينية المتعاقبة، تضم وزراء من أبناء الطائفة المسيحية بشكل دائم، دليلا على إشراكهم في عملية القرار السياسي والوطني داخل أراضي السلطة الفلسطينية. أما في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، فتقوم الأحزاب العربية باستقطاب عدد كبير من الشباب الفلسطيني من مسلمين ومسيحيين، والذين يصرون على الحفاظ على هويتهم العربية بغض النظر عن انتمائهم الديني. ويعطينا الدكتور عزمي بشارة، رئيس التجمع الوطني الديمقراطي، والعضو العربي في الكنيست الصهيوني، مثالا، عن المفكر العربي الفلسطيني المقاوم المعتز بقوميته وهويته العربية.

في المقابل لا زال رجال الدين المسيحيين يعطون مثلا طيباً عن الحس الوطني الكبير، ويقدم لنا الأب عطالله حنا مثلا واضحاً على ذلك، ففي عام 1998 ارتفع صوت الأب عطالله حنا الناطق الرسمي باسم الكنيسة الأرثوذكسية في القدس والأراضي المقدسة، الذي بدأ حملة للدفاع عن المقدسات والحفاظ على الحقوق العربية في المؤتمرات والندوات والصحف ووسائل الإعلام. وقد احتجت إسرائيل أكثر من مرة على صوت الأب حنا، مطالبة بعزله من قبل الكنيسة. في شهر تموز/يوليو من عام 2001 أصدر تصريحاً قال فيه: "لا مساومة ولا تنازل عن ذرة تراب من ثرى القدس العربية المحتلة، فالقدس مدينة عربية كانت وستبقى إلى الأبد، ويجب أن تعود إلى السيادة العربية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة ... ". -9- الجدير ذكره هنا أن الأب حنا هو عضو في المؤتمر القومي العربي، وعضو في المؤتمر القومي – الإسلامي، وفي مؤسسة القدس الدولية، وقد قامت السلطات الصهيونية بتفتيش مكتبه أكثر من مرة في مدينة القدس وقد تعرض الأب حنا للضرب والاعتقال على يد الصهاينة. ومن المواقف المشهودة للأب حنا، اعتزازه بالشيخ أحمد ياسين، وقد قام يوماً بعيادته، كما يعرف عنه أنه من المدافعين عن العمليات الاستشهادية معتبراً أنها حق للفلسطينيين للدفاع عن أنفسهم.

الأب ميشال الصباح، مسيحي عربي من الناصرة، يتولى منصب بطريرك اللاتين للمدينة المقدسة، فمنذ توليه منصبه في العام 1988، لا يتوانى عن اتخاذ المواقف الداعمة للحق الوطني الفلسطيني، منتقداً سياسة العنف الإسرائيلية ومندداً بإجراءاتها. وعندما زار مخيم الدهيشة، قال: "إن أية قوة في الأرض لا يمكنها أن تنزع حق الإنسان في وطنه وأرضه".. واعتبر انتفاضة الأقصى بمثابة مطلب لحياة حرة وكريمة في دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. ومن الطبيعي أن تؤدي تصريحات البطريرك الصباح إلى إزعاج السلطات الصهيونية، وقد اتهم أوري مور، مدير دائرة الطوائف المسيحية في وزارة الأديان الإسرائيلية في أواخر التسعينات من القرن الماضي البطريرك صبّاح بإثارة الاضطرابات، وقال إن 99% من مضمون رسالة البطريرك كان سياسياً، ونصح بوجوب أن يبقى البطريرك زعيماً دينياً، لكن الممارسات الصهيونية المعادية للمسيحيين لا تقتصر فقط على التصريحات والانتقادات الموجهة لرجال الدين، بل تتعداها إلى أعمال تفوق ذلك، منها أعمال تطال تدنيس أماكن العبادة المقدسة، فكما يستهدف المتطرفون اليهود المساجد، يستهدفون أيضاً الكنائس، والأمثلة على ذلك عديدة وأحدثها اقتحام ثلاثة من اليهود لكنيسة البشارة في الناصرة ومحاولة إضرام النار فيها، وقد اعترفت الشرطة الإسرائيلية لاحقاً بأن أحد منفذي الهجوم، ويدعى حاييم إلياهو، قد حاول سابقاً الاعتداء على كنيستي القيامة والبشارة، وقبل شهر من اغتيال رابين هاجم أحد المتدينين ويدعى حنوئيل كورن – وكان جندياً في الجيش الإسرائيلي - كنيسة سانت أنطونيوس في يافا، وأطلق الرصاص بكثافة داخل الكنيسة، وزعم خلال التحقيق معه أن أحد رجال الدين اليهود أمره بذلك، وقد اتُهم أيضاً بإشعال النار في الكنيسة الجثمانية بالقدس، ولكن لم تتم إدانته بهذه الجريمة، ولا تزال مأساة محاصرة كنيسة المهد في بيت لحم ماثلة أمامنا، عندما التجأ إليها عدد من المقاتلين الفلسطينيين عام 2002، فقام الجيش الإسرائيلي بمحاصرة الكنيسة بمن فيها من رجال دين ومقاتلين مانعاً المؤن والطعام عنهم، ولم تفلح المحاولات الدولية في فك الحصار، إلا بعد التوصل إلى اتفاق قضى بإبعاد المقاتلين المحاصرين إلى خارج حدود فلسطين.

لا شك أن الجانب المسيحي العربي من فلسطين يعطي صورة مشرّفة عن وحدة الشعب في مواجهة الاحتلال، ولا شك أيضاً أن العامل الصهيوني كان من أهم وأبرز العوامل التي ساعدت على توحّد المسلمين والمسيحيين في فلسطين في مواجهة الخطر الكبير الذي هدد وجودهم وهويتهم. لكن عمليات التهويد المتزايدة التي تقوم بها السلطات الصهيونية، والتي تهدف إلى تغيير الطابع الديني والعربي لمعظم المناطق الفلسطينية المحتلة، وعلى وجه التحديد مدينة القدس، تهدّد في المقام الأول التواجد المسيحي، باعتبار أن المسيحيين هم أصلا أقلية من مجموع السكان، فكيف إذا استهدفتهم سياسة التهويد بشكل مباشر، ماذا يمكن أن يتبقى من هذه الأقلية؟

برزت في الأعوام الأخيرة ظاهرة الهجرة المسيحية المتزايدة من فلسطين باتجاه دول أخرى كأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي ظاهرة خطيرة، في حال استمرارها، قد تؤدي إلى تناقص كبير في عدد المسيحيين المقيمين في فلسطين. في دراسة للدكتور برنارد سابيلا، عن نسبة السكان المسيحيين في الأراضي الفلسطينية، يقول أن النسبة في تناقص مستمر حتى وصلت إلى حوالي 2 بالمئة فقط من مجموع السكان عام 2000. -10- ويصف البعض هذه الظاهرة بأنها باتت تشكل ظاهرة استنزاف بوتيرة متسارعة جداً. وفي حين يعزو البعض هذه الظاهرة إلى ممارسات سلطات الاحتلال القمعية التي تستهدف فئة الشباب بشكل خاص، وإلى عمليات مصادرة الأملاك والأراضي دون وجه حق، مما يحمل الشباب على التفكير بالهجرة، يرى بعض آخر، أن من بين الأسباب أيضاً شعور الفلسطينيين المسيحيين بأنهم فئة مستضعفة، لا تجد من يدافع عنها، خاصة من قبل الكنيسة. وهو ما يولد عدم استقرار نفسي واقتصادي لفئات واسعة من الفلسطينيين المسيحيين، فيرون أن حل مشكلتهم يكمن في الهجرة.

ثالثا - توصيات للاستفادة من العامل المسيحي المقاوم:
- ضرورة إشراك المسيحيين الفلسطينيين في كل عمل وطني، وتشجيعهم على القيام بدور تجاه الغرب لإسماع صوت فلسطين في الدوائر الغربية، خاصة بعد انعكاسات أحداث 11 أيلول.
- ضرورة إيجاد مناخ من الثقة بين المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين يجعلهم يزدادون تعلقاً وانتماء لقضيتهم الوطنية.
- محاولة الحد من هجرة الشباب المسيحي إلى الخارج والحفاظ على الهوية الفلسطينية لهؤلاء عن طريق المساعدة في حل مشاكلهم الاقتصادية، خاصة إذا تمكنت الكنيسة من القيام بدورها كما يجب على هذا الصعيد.
- إبراز الدور الإيجابي للمسيحيين في فلسطين على كافة الصعد خاصة منها الإعلامية.

المسيحيون في فلسطين شركاء في الوطن، وشركاء في المقاومة. والفلسطينيون من الشعوب القلة، التي لم تعرف الطائفية والمذهبية، ولم تعان يوماً من القتال الطائفي، بل إن المتابع لليوميات الفلسطينية لا يجد ما يشير إلى أمور الطائفة من قريب أو بعيد، وهي ميزة تفتقر إليها كثير من دولنا العربية التي تغرق في حروب طائفية ومذهبية.  إن ما يجمع الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين في مواجهة الاحتلال أكبر من أن يفرقهم، وقد جاء في سورة المائدة: ﴿ولتجدّن أقربَهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون﴾.
--------------
المراجع:
1- عبد الوهاب الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999، ص 114.
2- رؤوف سعد أبو جابر، الوجود المسيحي في القدس خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، ص 130.
3- المرجع نفسه.
4- بيان نويهض الحوت، الشيخ عزالدين القسام في تاريخ فلسطين، بيروت: دار الاستقلال للنشر، 1987، ص 49 – 50.
5- بيان نويهض الحوت، صفحات أرمنية في تاريخ القدس، بيروت: مجلة الدراسات الفلسطينية، صيف 2000، العدد 43، ص 68-69.
6-  بيان نويهض الحوت، الشيخ عزالدين القسام في تاريخ فلسطين، مرجع سابق، ص 35.
7- بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986، ص 660.
8 – رؤوف سعد أبو جابر، مرجع سابق، ص 179.
9 – المرجع نفسه، ص 171 – 172.
10-  المرجع نفسه، ص 146.

الكاتب: ahmadfattah

علي ابراهيم

عام من "الطوفان" وما شجن في النفس والعالم!

الثلاثاء 8 تشرين الأول 2024 - 10:54 م

لو سألنا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أيَّ خبير إستراتيجي أو محلل سياسي، عن التغييرات الكبرى في العالم، والصراعات القادمة فيه، لتحدث عن ملفات عديدة، ابتداء بالصراع الروسي والأوكراني، وتحجيم ا… تتمة »

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »