كبحُ التضامن: ما الذي جرى في الغرب بعد "سيف القدس"؟
الخميس 10 تشرين الثاني 2022 - 3:52 م 1455 مختارات |
تفاعل الرأي العام الغربيّ بشكلٍ ملحوظ جداً مع معركة "سيف القدس" في مايو/أيار 2021، إذ سجّلت أوروبا والولايات المتحدة حراكاً غير مسبوق، ومواقف داعمة من قبل شخصياتٍ مؤثرة في مختلف المجالات. وكانت أهميّة هذا التضامن أنّه يتفاعل في بيئاتٍ حاضنةٍ للاحتلال الإسرائيلي، مع الإشارة إلى أنّ هذا التضامن الغربيّ مُصنّف من قبل الاحتلال نفسه على أنّه خطرٌ استراتيجيّ عليه يندرج في إطار معركة ما يُسمّيه "نزع الشرعية" عنه.
في لندن مثلاً، احتشد حوالي 180 ألف متظاهر، وكانت تلك المظاهرة أكبر حراكٍ متعلقٍ بقضايا الشرق الأوسط تشهده العاصمة البريطانية منذ حرب العراق عام 2003. أما في باريس، فقد خرج المتظاهرون في اليومين الثالث والرابع للمعركة كاسرين حظرَ الشرطة الفرنسية للمظاهرات المؤيدة لفلسطين، وقد قوبلوا بالقنابل المسيلة للدموع والهراوات. ومع ذلك استمروا بالخروج في أحياء باريس في اليومين الخامس والسادس للحرب، وبعد وقف إطلاق النار بيومين. بشكلٍ مشابهٍ في ألمانيا كسر المحتجون قرار الحظر وتظاهروا في عدة مناطق، وخاصة برلين وهامبورغ ولايبزيغ وفرانكفورت. تعرّضت بعض تلك المظاهرات للقمع من قبل الشرطة، قبل أن تُرخِّص وزارة الداخلية لمظاهرات أخرى في العاصمة.
هذه نماذج في أكبر ثلاث دول أوروبية، فيما سُجّلت مظاهرات في كلّ دولة تقريباً من دول الاتحاد الأوروبي، خاصّةً في دول لا تظهر عادةً على خريطة الحراك التضامني مثل بولندا والتشيك. وكانت الذروة في اليوم السادس للمعركة الموافق للذكرى 73 للنكبة (15 مايو/أيار)، إذ رُصدت خلاله مظاهرات في 49 مدينة أوروبيّة في يومٍ واحدٍ، بحسب المركز الفلسطيني الأوروبي للإعلام.
أما في الولايات المتحدة، فقد خرجت المظاهرات في العاصمة واشنطن، وفي ساحة التايمز في نيويورك، وأمام القنصلية الإسرائيلية في لوس أنجلوس، وغيرها. وسُجلت أكثر من 22 مظاهرة في شمال الولايات المتحدة وحدها يوم 15 مايو/أيار 2021. كان مشهد المظاهرات في أميركا ملفتاً من حيث الانتشار، إذ من غير المعتاد وجود مثل هذا التفاعل الواسع هناك. هذا المشهد الجارف للحالة التضامنية في الغرب ظهر أيضاً في دول طَرَفية غربية، أو محسوبة على الغرب سياسيّاً، مثل أستراليا، ونيوزيلندا، واليابان، وكندا.
مشاهير "السوشال ميديا".. ميدانٌ آخر للتضامن
على صعيدٍ آخر، شهد التضامن مع فلسطين أشكالاً غير المظاهرات، ظهرت لأول مرّة من خلال مؤثرين ومشاهير عالميين. على سبيل المثال، برز موقف عارضة الأزياء الأميركية بيلا حديد Bella Hadid التي شاركت في مظاهرة في نيويورك وكتبت عنها في حسابها على إنستغرام الذي يتابعه حوالي 55 مليون شخص. فيما نشرت الممثلة الإسبانية ألبا فلوريس Alba Flores صورةً لها خلف علم فلسطين في خامس أيام الحرب، وكتبت على تويتر: "يكفي هذا القتل، كلنا مع الشعب الفلسطيني".
مشاهير آخرون عبّروا عن موقفهم، مثل مارك روفالو Mark Ruffalo، الممثل والمخرج الأميركي الذي طالب بمعاقبة "إسرائيل" على حسابه على تويتر الذي يتابعه أكثر من 7 ملايين. إضافةً لنجوم هوليود آخرين أبدوا انتقادَهم الشديد للاحتلال وأبدوا تضامناً قوياً مع الفلسطينيين، مثل جون كوزاك John Cusack، وسوزان ساراندون Susan Sarandon .
كما أنّ المغنية والممثلة الأميركية زندايا Zendaya التي يتابعها في إنستغرام أكثر من 154 مليون شخص، شاركت دعوات للتبرع لأهالي غزّة خلال فترة الحرب. وليس آخراً مغني الراب الأميركي جون لجند John Legend الذي كتب "Palestinian Lives Matter"، أي "حياة الفلسطينيين مهمة"، في محاكاة لحركة "حياة السود مهمة" التي هيمنت على المشهد التضامني مؤخراً في الغرب.كانت هذه المواقف مقدمةً لتفاعلاتٍ أوسع في عالم المشاهير، كان أبرزها موقف بطلة أفلام هاري بوتر البريطانية إيما واتسون Emma Watson التي نشرت صورةً تضامنية مع فلسطين بعدها بشهور على حسابها في إنستغرام الذي يتابعه أكثر من 68 مليوناً، وكتبت "Solidarity is a verb" أي "التضامن فعل".
هذه أمثلة غير حصرية عن تضامن مشاهير عالميين مع فلسطين، وهو تفاعل يُرصد لأول مرة خلال معركة سيف القدس. إضافةً لمئات النشاطات التي نظّمها نشطاء غربيون كالندوات والحوارات، ورفع الأعلام الفلسطينية على مبانٍ رسمية في عدد من البلديات والمباني الحكومية.
في تحليل استثنائية التفاعل
لقد كان هذا التفاعل التضامني حول العالم الأعلى حضوراً في السنوات الأخيرة، خاصّةً إذا قارناه مع حالات شبيهة شنّ فيها الاحتلال حروباً مدمرة على قطاع غزّة. وإذا افترضنا أنَّ مبادرة المقاومة الفلسطينية في معركة "سيف القدس" كانت استثناءً في سياق تحولات العقيدة العسكريّة الدفاعية للمقاومة في غزّة، من حيث مبادرتها لصدّ العدوان الإسرائيلي وكبح جرائمه في القدس، فإنّ هذا الفعل الاستثنائي يستلزم ردود فعل استثنائية، وقد مثّلت الحركة التضامنيّة العالميّة عموماً، والغربية خصوصاً، واحداً من تجلياتها. وهو من التجليات التي يدعمها افتراض عزمي بشارة إذ يقول إنّ تفاعل الرأي العام يبرز أكثر مع الضحية الفاعلة التي تقاوم، لا الساكنة، خلال مقارنته بين التضامن العالمي الملحوظ مع القضية الفلسطينية وغيرها من المآسي الإنسانية في العالم.
كما أنَّ تضامن المؤثرين العالميين وتفاعلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي أضاف بعداً مهماً في تحريك مساحاتٍ واسعة من الجمهور العالمي. فهذه المرة الأولى التي يجذب الحدثُ الفلسطيني شرائح نجومية بهذا المستوى في عالم الأزياء والغناء وصناعة الأفلام والدراما.
ويبدو أن التفاعل التضامني كان مركّباً ومتشابكاً في مختلف الميادين، إذ تنعكس فاعلية مجالٍ ما على مساحات أخرى. ففي هذا السياق، وجدنا بشكلٍ نادر تفاعل سياسيين وشخصيات حكومية غربية مع فلسطين، بما يشبه السباحة مع التيار الذي بدا جارفاً في الشوارع والعالم الافتراضي، والذي أعلى من حضور الرواية الفلسطينية للحدث على غير المعتاد. من هذه الأمثلة تصريح المستشارة الألمانية آنذاك إنجيلا ميركل بضرورة التواصل مع "حماس"، وهو موقف أعاد تأكيده الاتحاد الأوروبي الذي اعتبر "حماس" جزءاً من الحل. في السياق ذاته حمّل الرئيس الأميركي "إسرائيل" بشكلٍ غير مباشر مسؤوليةَ التصعيد في حي الشيخ جرّاح، في سابقةٍ غير مألوفة في خطاب السياسة الخارجية الأميركية.
في جانب الحراك الميداني، كان ملفتاً تطور مفردات الخطاب السياسي لنشطاء التضامن الغربي، فكلمات المتحدثين الذين خاطبوا حشود مظاهرة لندن في حديقة "هايد بارك" وسط لندن مثلاً تضمنت تمجيداً للمقاومة، في خطوة غير مسبوقة. في تلك المظاهرة، افتتحت عريفة المنصة بالقول: "إننا هنا لنحتفل بمقاومة الشعب الفلسطيني". وتكررت كلمة "المقاومة" في كلمات المتحدثين التالين بشكل لم يسبق أن ورد في مثل هذه المناسبات. وقد رفع متظاهرون أعلاماً ورايات لحركات المقاومة، خاصة "حماس". حدث هذا في ألمانيا وفرنسا، إضافةً لبريطانيا.
بالعموم يمكن وصف الخطاب التضامني الغربي مع فلسطين على أنه تضامن مع ضحية تسعى إلى حقوق إنسانية أساسية، ونادراً جداً ما تظهر صورة الفلسطيني المقاوم الذي ينتمي لحركة تحرر وطني. ويمثل هذا جانباً من جوانب معضلة الراوية الفلسطينية في الغرب التي يمكن تنميطها كصراع بين روايتين سائدتين: رواية يتبناها الاحتلال وداعموه الذين يصورون الفلسطيني كإرهابي، ورواية تصدرها حركة التضامن الغربية تصور الفلسطيني كضحية، فيما تغيب صورة المقاوم صاحب القضية التحررية تماماً. لذلك فإنّ مثل هذا التطور يعتبر لافتاً للانتباه.
مقصّ الملاحقة
في مقابل تصاعد التفاعل مع فلسطين اتخذت عدة حكومات أوروبية خطواتٍ متسارعة لتقييد حركة التضامن الدولية، من خلال تشريعات برلمانيّة وقانونيّة وإجراءات ميدانيّة، بغض النظر عن مواءمة هذه التشريعات للقيم الديمقراطية، وعلى رأسها حريّة التعبير، التي تفتخر أوروبا بتبنيها.
من أمثلة ذلك، مسارعة كلّ من ألمانيا وفرنسا لمنع التظاهرات الداعمة للفلسطينيين، وذلك منذ الأيام الأولى لمعركة سيف القدس، إذ تذرّعت فرنسا بحجة "خطر الإخلال بالأمن العام"، فيما تذرعت ألمانيا بحجة "الخوف من وجود شعاراتٍ معادية للسامية". كما اعتقلت شرطة باريس برتراند هيلبرون Bertrand Heilbronn، منظّم إحدى المظاهرات، بعد خروجه مباشرةً من وزارة الخارجية لمناقشة قرار منع إحدى المظاهرات، كما فرضت الداخلية الفرنسية غراماتٍ مالية على المخالفين لقرار حظر المظاهرات.
أما بعد الحرب، فقد أصدرت بريطانيا تعديلاتٍ قانونية تتيح تصنيف جناح "حماس" السياسي كحركة "إرهابيّة"، بعد أن اكتفت في الماضي بتصنيف الجناح العسكري وحده كتنظيم "إرهابيّ". وفقاً لكثير من التحليلات، فإنّ هذا التشريع يستهدف الحركة التضامنيّة مع فلسطين الصاعدة في بريطانيا، وهو سلوكٌ مشابه لتبني استراليا قراراً بضم جناح "حماس" السياسي لقوائم الإرهاب بعدها بحوالي 3 شهور. وقد أشارت مصادر صحفية أن القرارين يأتيان ضمن حملة إسرائيلية لتشويه سمعة حركات المقاومة بعد معركة سيف القدس. ومما يدعم هذا التصور محاولات اللوبي الداعم للاحتلال الإسرائيلي فيما بعد ربط سلوك حركات التضامن مع فلسطين بحركة "حماس" من أجل تجريمها.
من الإجراءات التي يمكن رصدها بعد معركة "سيف القدس"، التطور في محاولات قديمة جديدة لتجريم حركة المقاطعة (BDS). وهي محاولات نتج عنها تبني الحكومة البريطانية عبر خطاب الملكة في افتتاح الدورة البرلمانية في مايو/أيار 2022 عن توجه الحكومة المقبلة طرح تشريع يمنع البلديات والسلطات المحلية "من الانخراط في مقاطعة من شأنها تقويض تماسك المجتمع". وهو تشريع يستهدف حركة المقاطعة (BDS) على وجه الخصوص، بإجماع المحللين. وهي المرة الأولى التي يتحول فيها التوجه السياسي البريطاني لمحاربة حركة المقاطعة إلى برنامج حكومي يتضمنه الخطاب الملكي.
وفي السياق البريطاني الذي يُعتبر ملفتاً في تصاعد توجهاته المنحازة للاحتلال، يمكن رصد ما يمكن تسميته "المجزرة السياسية" داخل حزب العمال البريطاني من أجل اجتثاث التيار اليساري الداعم لفلسطين، الذي يقوده الزعيم العمالي السابق جيرمي كوربين. وهذا التيار يعتبر عصب الحركة التضامنية البريطانية، إذ تعرض المئات من الأعضاء بمختلف المستويات للفصل وتعليق العضوية والتحقيق الداخلي تحت ما أسموه "اجتثاث معاداة السامية" داخل الحزب. وهي حملة نتج عنها هيمنة واضحة للتيار الليبرالي الداعم لـ"إسرائيل"، وانعكس ذلك على ضعف في بُنى الحزب ومواقفه السياسية التقليدية.
قد تمثل بعض أو معظم الممارسات التي أشرنا لها امتداداً لسياق سابق لمعركة سيف القدس، إلا أن حدثاً كهذا بدا محفزاً لاتجاهات هذا السياق. فالقراءة المتأنية الآن، بعد مرور عام ونصف على المعركة، تبدو أكثر جدوى في تحليل التطور الاستراتيجي للحدث. فالاحتلال أعاد قواعد الردع إلى وضعها السابق عسكريّاً في غزّة، فيما تصاعدت حدة التشريعات القانونية التي تكبح نمو حركة التضامن الدولية مع فلسطين في الغرب، دون أن يعني ذلك تراجعها. وهنا يبرز التساؤل حول محاولات استثمار نتائج تلك الجولة من التضامن والوحدة الفلسطينية، التي لم تبدُ حتى الآن إلا كفرصٍ ضائعة قد يصعب تناولها في هذه العجالة.
متراس ، 2022/11/1