المجتمع المدنيّ العربيّ والإسلاميّ والقدس

دراسة تحليليّة نقديّة في ضوء جهود مؤسسة القدس الدولية

د. محمد خليفة صديق

إصدار قسم الأبحاث والمعلومات

مؤسسة القدس الدولية

كانون ثانٍ/يناير 2020

مقدمة:

القدس تلك المدينة الشامخة، حاضرة التاریخ، ومهوى الأفئدة ومحطّ الرحال، ونقطة الالتقاء للعدید من الأجناس البشریة، أرض النبوات جميعًا منذ فجر التاريخ، وقبلة الأنبياء وأتباعهم، تهفو إلیها القلوب، وتتوجه صوبها الأرواح، وتهواها الأفئدة، لتعیش في كنفها، وتتنسم شذاها، وتتلذذ بعبیرها المضمخ بنفحات الإیمان بما منحه الله سبحانه وتعالى لها من قداسة وطهارة وبركة، فهي من أقدم مدائن الدنیا وأقدسها وأكثرها استیعابًا للأعراق البشریة، إذ إنها مقدسة في أصل شرائع التوحید، فیقدسها المسلمون كونها تحوي المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتین، وثاني المسجدین، وثالث الحرمین الشریفین، وللمسلمین فیها إرث عریق وتاریخ شامخ، ویقدسها المسيحيون كونها تحوي كنیسة القیامة أقدس كنيسة في العالم المسيحي، وهي في نظر أبناء الملة الثالثة مقدسة، حسب اعتقادهم؛ فالقدس كانت ولا تزال وستبقى محور التدافع العالمي الديني والعرقي والقومي الحضاري عبر التاريخ، غزتها أمم عدیدة ودُمّرت وأُحرِقت، ولكنها بقیت القدس العربیة الإسلامیة الفلسطینیة، وستظل القدس هي القضية التي لا يختلف عليها اثنان.

تعرضت القدس في العصور الوسطى للغزو القادم من أوروبا، وللاجتیاح المغولي القادم من أواسط آسیا، وتوجّه إليها الأفارقة للعیش والتعبد فیها، وفتحها ترهاقا الفرعون السوداني الذي قاد حملة عسكرية من السودانيين لإنقاذ بنى يعقوب فى القدس، وسجلت التوراة اسم ترهاقا مرتين، مرة في سفر الملوك الثاني، ومرة بسفر أشعياء. والعبارة المذكورة في السفرين حسب الترجمة الانجليزية هي:

"Word reached the Assyrians that the Egyptian army, led by king Tirhakah of Sudan, was coming to attack them"

وترجمتها :"ووصلت رسالة الى الأشوريين بأن ترهاقا ملك السودان جاء يقود جيوش المصريين لمهاجمهتم." سفر أشيعاء، الإصحاح 37، وكان الأشوريون على أبواب أورشليم حين دعا أشيعاء الرب أن يحفظ شعبه منهم، ويستغيث بملوك كوش (السودان) ليصدوا عن العبرانيين شر الأشوريين، ويؤيد التاريخ إشارة التوراة إلى الملك ترهاقا ويخبرنا أن ملوك كوش قد أخضعوا مصر وحكموها وامتد نفوذهم إلى فلسطين وسوريا، وأنهم حاربوا الأشوريين في مصر والقدس. وظل حبل التواصل موجودًا بین القدس والأفارقة، الذین وفدوا إلى هذه المدینة المقدسة، ولا یزال وجودهم جنبًا إلى جنب مع أبناء هذه المدینة، یمثل عنصرًا مهمًّا في الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة والثقافیة؛ فهم جزء أصیل من بیت المقدس، لهم وجودهم وكیانهم وانتماؤهم ودورهم المعیشي والنضالي ضمن الشعب الفلسطیني، وقدموا التضحیات الكبیرة والكثیرة، وأثبتوا للعالم أنهم من أشد الناس حرصًا وتفانیًا على القدس.

والقدس مدينة لها أرومة تاريخية حضارية، نشأةً وعبرةً ومصيرًا، أرومة يعرفها من تابع وجودها وتطورها منذ ثلاثة آلاف وخمسمئة عام قبل الميلاد. وقد خضعت هذه المدينة على مدار تاريخها لمجموعة من الغزوات الأجنبية متعددة المنابع والأصول، ولكن هذه السيطرة الأجنبية المسلحة لا تحقق لصاحبها الغازي مطلب السيادة الدائمة مهما استطال أجلها، هذا ما استقرت عليه الأمم المتمدنة وقانونها الدولي العام؛ فقد رحل الغزاة وبقيت السيادة بين يدي الشعوب والأرومات الحضارية الأصلية، ولا يمكن أن تستثنى القدس من هذه السُنة الإنسانية القانونية.

كان المجتمع المدني العربي والإسلامي حاضرًا في كل قضايا وهموم الأمة، وكان لقضية القدس نصيب معتبر من هذا الاهتمام، ونشأت لافتات ومنظمات وجمعيات أهلية عديدة تحمل همّ القدس، كان من أبرزها مؤسسة القدس الدولية، وهذا البحث مقاربة تقويمية لإشكالية تفاعل المجتمع المدني العربي والإسلامي مع القدس، من خلال دراسة تحليلية نقدية لجهود مؤسسة القدس الدولية منذ تأسيسها، لتلمس جوانب الحراك الجماهيري المدني الذي قامت به لتنشيط التفاعل الشعبي مع القدس، وتحديد مكامن القصور والضعف وأسبابهما، ومن ثَمّ تقييم أثر ما نجم من تحركات شعبية ومدنية لنصرة القدس، وذلك بمنهج وصفيّ يرصد ويحلل جهود المجتمع المدني العربي والإسلامي من خلال ما تقوم به مؤسسة القدس الدولية، كما ينحو البحث لمنهج استشرافي يقوم بتقييم هذه الجهود ومدى صلاحيتها للتطوير لبناء أفق استشرافي لدور أكبر للمجتمع المدني العربي والإسلامي في قضية القدس.