بئر الأرواح - قصّة قصيرة
تقول الحكاية:
إن بئراً عميقةً تقع تماماً تحت صخرة عظيمة في ساحة الحرم في مدينة القدس، تُحبس فيها أرواح الناس حتى يوم النشور، وإن سارة زوجة إبراهيم عليه السلام حارسة عليها..
ثلاثة أرواح طارت من أقفاصها في لحظة واحدة، غادرت أسوار عظامها ولحمها، وتركت وراءها إلى غير رجعة صناديقها المهلهلة.
الروح الأولى وجدت للجسد (الأوفر حظاً) الذي كانت تسكنه مقاماً في قبر بديع، من رخام مصقول في روضة غنّاء، تظلله الأشجار، وتحيط به أحواض الزهور والرياحين.
أما الروح الثانية فقد سُجَّي جسدها في نعش من خشب ثمين، ملفوف بعلم زاهية الألوان، محمول بحرص في جوف طائرة عملاقة تنقله إلى موطنه البعيد.
الجثّة الثالثة التي لم يبق منها إلا فتات هتكته أشعة الشمس والرياح العاتية، فقد صال الدّود فيها، وجال، حتى أنها لم تجد متسعاً لحفرة تواري سوءتها، تلاشت بعد حين وصارت إلى تراب.
ثلاثة أرواح طارت مرغمة في لحظة واحدة على غير موعد من أمكنة قصيّة، وحلّقت في فضاء ليس له حدود، عالٍ لا تدركه الأبصار، عميقٍ ليس له قرار، أخذتها إرادة قوية خفية أخذاً في رحلة قسريّة، وأسقطتها تماماً في فضاء مدينة القدس لتدنسّ مرغمة تحت صخرة هائلة معلقة بين السماء والأرض تظلل من علٍ بئرَ الأرواح.!
هي صخرة مثل باقي الصخور، في مكان مثل كل الأمكنة، لكنها تحمل خصوصية فريدة وهي تتوضع بكبرياء، معلقة دون عمد على بقعة فضائية مقابلة تماماً للثغرة الوحيدة على غلاف الكرة الأرضية التي يصعد منها الكلم إلى سماءٍ فوقها سماءٌ على أعتاب العرش.
الساعة تقارب الخامسة مساءً عندما حطت طائرة عمودية عملاقة على قمة مسطحة من قمم جبال (تورا بورا). ما زالت سحابات الدخان الأسود تتصاعد من المواقع التي ضربتها عشرات الصواريخ، وقذائف المدافع منذ أربعة أيام متواصلة.
ما إن لمس بطن الطائرة الأرض حتى قفز منها جنود مدججون بالأسلحة على ظهورهم أحمال من معدات وأجهزة اتصال، وعلى رؤؤسهم خوذات سميكة مطلية بالطين، وعلى ما بقي بادياً من وجوههم رسوم وخطوط سوداء وبنيّة.
كان (ديفيد) الرجل السابع الذي قفز بدوره من الطائرة، وأخذت خطواته المتسارعة طريقها يساراً كأنه يعرف وجهته جيداً.
اقترب من صخرة عظيمة، وقبل أن يحتمي وراءها عاجلته رصاصة فتحت ثغرة صغيرة بين عينيه سقط على أثرها دون حراك.
الساعة تقارب الخامسة مساءً، كوكبة من المتظاهرين تمر من الشارع الخلفي للقصر الملكي لمملكة جزر المرجان، ترفع لافتات كبيرة لم يستطع أحد عن بُعد قراءة ما كتب عليها، وأصوات غاضبة كثيرة تصرخ من هنا وهناك لم يفهمها أحد، إلا الملك الذي كان يراقب ما يجري مذهولاً من وراء قضبان نافذة غرفته المطلّة على الحديقة الملكية عندما أحس وخزة في صدره سقط على إثرها، ميتاً.
الساعة تقارب الخامسة مساءً عندما أخذت عربة (أبو العبد) الزاهية -بعد انقطاع قسري فرضته تعليمات منع التجول دام عشرة أيام- مكانها المعتاد على أول الشارع المؤدي إلى حي القصبة في نابلس.
كان قد فرغ لتوه من توضيب العربة، وتلميع الوعاء الزجاجي المملوء بشراب الخروب المثلج، وقبل أن يرسل نداءه الأول وقف أمامه (مناحيم) الجندي في جيش الدفاع:
- روخ من هون، ودفع بأخمص سلاحه الطويل وعاء السائل العذب الذي سرعان ما انكسر واندلق ما فيه من سائل شهيّ على جنبات العربة.
- يا ابن الكـ......
وقبل أن تصل أصابعه الغاضبة إلى عنق مناحيم عاجلته رصاصات كثيرة فارق على إثرها الحياة.
سارة، واحدة من نساء الأرض اللاتي نالهن رضا الرب، أصابتها المعَجْزَةُ، بعد أن بلغت من العمر عتيّاً، تسعين سنة، أو تزيد، وهي على عهد الطهر والعفاف، تقية صالحة ورعة.
لم تفارقها في سنوات عمرها الأخيرة صورة قاسية مرعبة لصبيّة جميلة سمراء، ألقت بها ذات يوم بيديها إلى وادٍ غير ذي زرع في صحراء شاسعة، لها أول، وليس لها آخر.
وطفل صغير تبحث شفتاه اليابستان عبثاً عن قطرة حليب في ثدي أمه الجاف، والصبيّة يكاد يتلها الخوف والجزع، تركض هنا وهناك، تتسلق الهضاب علّها ترى على مرمى الرمل الأصفر شبحاً بشرياً يحمل مع طيفه أملاً بالنجاة للنبي الصغير يبقيه على قيد الحياة.
وحين أزفت ساعة خلاص روح سارة من سجن جسدها حملوا الجسد وواروه ثرى الخليل، لكن روحها لم تجد طريقاً للصعود إلى سكن الأنبياء.
تقول الحكاية إن ملك الأرواح نقل لها أمر السماء:
- أنت يا سارة حارسة على بئر الأرواح حتى يوم الحشر، تسمعين حكايات الناس، وتسألينهم عن أمنياتهم الأخيرة..
الساعة تقارب الخامسة مساءً عندما وصلت الأرواح الثلاث إلى بوابة البرزخ.
- أيتها الأرواح الآتية من أطراف الأرض، هنا تحت هذا الغطاء الثقيل تسكنين، ليس لك أطراف ولا رؤوس، ولا تحتاجين إلى شيء من متاع الدنيا، هنا لا يطالك الموت بعد ميتتك الأولى حتى يوم ينفخ في الصور، هنا لا تستطيعين شيئاً أبداً، تتحدثين فقط، تتفكرين فقط، وتندمين..
أنا سارة حراسة بئر الأرواح، لست أدري إن كان خيراً أريد بي أم شراً كي أقيم في هذا المكان، أموت ندماً في اللحظة ألف مرة، وأموت خوفاً، وأنا أنظر إلى بطن هذه الصخرة الهائلة، أتساءل: ترى لو تسقط من بين أصابع الملائكة، ماذا سيحل بي وبكِ أيتها الأرواح.؟
وهل سنجد بعدها طريقاً للنجاة.؟
ليس لي من أمري وأمركِ شيئا إلا أن أسمع بوحكِ، وحين أطبقُ عليكِ باب البئر تنتهي مهمتي.
كان اسمي (ديفيد)، وقد جئت من مدينة بعيدة لي فيها بيت وملعب بيسبول وحانة وبركة سباحة وصديقة جميلة اسمها جانيت.
حياتي رتيبة هادئة، أكاد لا أفعل شيئاً غير النظر إلى الشاشات، وضغط الأزرار، وقراءة الأرقام التي تظهر أمامي تجيب على أسئلتي كلها، وتنبئني بكل ما أرغب.
في اللحظة التي وطئت فيها قدماي ذلك العالم البعيد الذي أخذوني إليه، قتلت.!
كيف تقتلني رصاصة؟.
رصاصة صغيرة وأنا الخارق العصي على الموت؟.
الشاشات أمامي قالت لي ذلك، الأرقام أيضاً لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، وقالت لي: إنني الأقوى والأفضل والأرقى.
- سؤال أخير سيد ديفيد، لو عدت إلى الحياة مرة أخرى للحظة واحدة ماذا ستفعل؟.
- من الصعب أن أجيب على هذا السؤال وأنا، كما ترين، لا أحمل أدواتي وأجهزتي، أكثر ما يحزنني أنني لن أتمكن من مشاهدة صور بطولاتي!
(اقترب منها وهمس)
- الأمر الآخر الذي يقلقني حقاً أن تكون صديقتي جانيت قد وجدت في غيابي حضن رجل آخر!
- وأنت أيتها الروح الحائرة الآتية دون تاجك وصولجانك، تقدمي وأخبريني.
كنت ملكاً عظيماً على بلاد عظيمة، ورثت الملك كابراً عن كابر، وقد أدركت أخيراً عندما سمعت أصواتهم، وأنا لا أكاد أصدق، أنني ملك على شعب جاحد، تصوري!.
يتحدثون ونحن في هذه الأوقات العصيبة عن ظلم وفقر وقهر، يتحدثون عن أمور تافهة، ولا يدركون أن معركتنا الحقيقية مع عدو يحتل جزءاً غالياً عزيزاً على بلادنا.
منذ من أكثر من خمسين سنة، وأنا أقول لهم كما كان يقول لهم أبي وجدي: إن على شعبنا أن لا يشبع كثيراً حتى لا تصيبه التخمة، وأن لا يبذر كثيراً كي لا تتراخى عزيمته، وأن يتحمل شظف العيش حتى نقدر على الصمود.
لكنهم، كما قلت لك، شعب جاحد، عندما سمعت صرخاتهم الغاضبة انفجر قلبي غيظاً، ومتّ!.
أعرف يقيناً أن فرداً من أسرتي سيأخذ مكاني على سدة الحكم، لأننا سلالة أسرة لم تخلق إلا لذلك، رسالة يجب أن أوصلها إلى من جاء بعدي، وأغلب ظني أنه ابني، سأقول له ليعملَ بجد وحزم على تحسين وتطوير أجهزة الأمن، ليكشف عن الجهات المشبوهة الحاقدة التي حرضت شعبي المسكين على هذا الفعل.
- وأنت أيتها الروح الفقيرة، اقتربي وهاتي حكايتك..
- أما أنا يا سيدة البئر فقصتي بسيطة وصغيرة، كنت أبيع شراب الخروب، تعودت على أن أفعل ذلك كل عمري مثلما كان أبي وجدي، فنحن لا نتقن غير هذه المهنة، أقود عربتي الزاهية، وأقف بها على أول الشارع المؤدي إلى حي القصبة في نابلس.
لقد التصقت في ذلك الركن حتى صرت جزءاً منه، وصار جزءاً مني، أتصور أنني إذا نقلت عربتي إلى مكان سواه لن أبيع كوب شراب واحد..
لو عدت إلى الحياة للحظة، سأذهب إلى حيث تعودت أن أقف، أشاهد عربتي التي سيصلحها ابني، يقف بها في المكان ذاته، عندها سأطمئن أن أمور أولادي من بعدي بخير.
- أيتها الأرواح، أدخلي البئر آمنة، حتى يوم الدين..
ثم أطبقت عليهم، وجلست تراقب بطن الصخرة بفزع، بانتظار أرواح أخرى.