حتى تكون القدس عاصمةً للثقافة العربية
المشهد: شرطة الاحتلال تعلّق أمراً من الآمر الناهي في المدينة -آفي ديختر- بمنع الاحتفال، وتضع الحواجز، وما يلبث أنْ يندلع تدافعٌ واشتباك بين أصحاب الحفل والشرطة، ينتهي باعتقال عددٍ منهم. سيناريو اعتاده أهل القدس وكأنّ يد مخرجٍ سينمائي قد أعدّته لهم، وهم مجبَرون على تكرار بروفاته مرّةً تلو الأخرى، فالمحتلّ قرّر أنّ كلّ أشكال الوجود الفلسطيني في المدينة ستُحارب، لا تغيّر من ذلك المفاوضات و"مجاملاتها المفترضة"، فالمجاملة البروتوكولية تعني التنازل في قاموسنا نحن فقط، أمّا في قاموس المحتلّ فهناك أمورٌ لا تخضع للمساومات، من بينها السيطرة على القدس.
لا يحقّ للسلطة الفلسطينية الوجود في القدس بأيّ شكلٍ رسميّ خلال المرحلة الانتقالية، هذا ما أقرّته اتفاقات أوسلو، ولم تتوانَ سلطات الاحتلال في تطبيقه والتشدد فيه، خصوصاً بعد أنْ اندلعت المواجهة الأخيرة في العام 2000، والتي كانت القدس عنوانها، فلا بيت الشرق مسموح به، ولا جمعية الدراسات العربية، ولا الحملات الانتخابية، ولا ممثّلي المدينة في المجلس التشريعي الذين خُيّروا بين حقّ الإقامة في القدس وبقائهم في مواقعهم التي ائتمنهم شعبهم عليها، ولا حتى أطقم الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إنْ حاولوا إجراء أيّ مسحٍ في المدينة، ومن الحتميّ أنّ احتفالية عاصمة الثقافة العربية ستنضمّ إلى هذه القائمة الطويلة من "الممنوعات".
ما حصل يوم الثلاثاء 25/3/2008 حين منعت قوات الاحتلال اللجنة التنفيذية لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية 2009 من إعلان شعارها الرسميّ وتكريم الفنان الذي رسمه، لم يُضِفِ معطىً جديداً، بل ببساطة أعاد طرح المعضلة الأساسية للاحتفالية بوضوح جارح: فكيف ستحتفلون بعاصمة لا تملكونها يا قوم؟ كيف ستستعرضون المخزون الثقافي لمدينة يجثم الاحتلال على صدرها، ويشوّه وجهها، ويطمس ثقافتها؟ أم تراه سيتفرّج عليكم و"يستحي من نفسه" أمام مدّكم الثقافي الغامر المتحضّر؟ هذه الأسئلة ليست مطروحةً على اللجنة التنفيذية للاحتفالية وحدها، فهي للأمانة لم تتسلّم عملها إلا منذ أقلّ من 3 أشهر، ولا أعتقد أنّها ستحصل على فرصة لتثبت وجودها رغم طموح القائمين عليها، خصوصاً وأنّ مديرها التنفيذي ما زال رهن الاعتقال. هذه الأسئلة مطروحة على ثلاثة مستويات: على وزراء الثقافة العرب الذين اتّخذوا القرار، وعلى النظام الرسمي الفلسطيني الذي يفترض أنْ ينظّم الاحتفالية، وعلى مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية والعربية قاطبة، فالقدس لا تعني أصحاب القرار وحدهم.
لن نخوض الآن في ما يترتّب على كلّ جهةٍ من هذه الجهات، سواءً حين اتخذت القرار، أو حينما بدأت خطواتها الخجولة البطيئة المتخبّطة لتنفيذه، أو حين لم تشكّل إلى الآن تصوّراً واضحاً لطريقة التعامل مع هذه الاحتفالية، لأنّ هذا ببساطة لنْ يغيّر الآن شيئاً. إنْ كان من حسنةٍ كبرى لقرار إعلان القدس عاصمة للثقافة العربية للعام 2009 فهي أنّها وضعتنا جميعاً أمام الحقائق العارية لهذا الصراع من جديد، ففلسطين ليست "دولةً شقيقةً" يسند تنظيم الاحتفالية إلى "وزاراتها" وقضي الأمر، والقدس اليوم ليست عاصمةً أصلاً حتى تكون عاصمة للثقافة، فلسطين دولةٌ يجب أن تقوم، والقدس عاصمة يجب أن تعود، لكن "يجب أن" هذه أوشكت أنْ تسقط من قاموس الجميع، وحتى يستقيم الأمر لا بدّ أنْ نعيدها إلى موقعها في الجملة، لأنها ليست محسّنةً بديعية، بل فيها لب المعنى وكبد الحقيقة.
حين نتحدّث عن عاصمة يجب أنْ تعود، فالاحتفال بها يعني تكريس ثقافة عودتها، وزرع ثقافة التضحية من أجلها، والشوق لعودتها، وزرع مشاهدها وصورها في عقول أصحابها جميعاً حتى نقترب من عودتها أكثر، ويعني بالتالي أنّ جهد الاحتفال بها يجب أنْ يكون جماعياً يشارك فيه كلّ من يعنيه أمرها بالمعنى الواسع للكلمة، فهذه ليست مدينة المقدسيين وحدهم، ولا مدينة أبناء الأرض المحتلة وحدهم، وتحريرها ليس واجباً حصرياً على الفلسطينيين دون غيرهم.
إنْ أردنا أنْ تكون القدس عاصمةً للثقافة العربية، فلا بدّ أنْ نزرعها في كلّ عاصمة عربية، وفي عقل كلّ فردٍ من أبناء هذه الأمة، ولا بدّ من جهدٍ مشترك لأنّ همّ هذه المدينة أكبر من أنْ تحمله سلطة بعينها أو شعب بعينه. حتى تكون القدس عاصمة للثقافة العربية لا بدّ من إطلاق تحرّكٍ واسعٍ يخترق العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، تبادر له مؤسسات المجتمع المدني وتتكامل مع الجهود الرسمية وتعززها، وهذا ما ندعو له ونمدّ الأيدي لتحقيقه. وإنْ أراد المثقفون الفلسطينيون والعرب أنْ تكون هذه المدينة عاصمة للثقافة فعليهم أنْ لا يكتفوا بدور النديم أو المعاتب أو المنتقد، عليهم أنْ يتصدّوا لدورهم في ريادة وعي جماهيرهم، وفي صياغة وعيٍ جديد لها تكون القدس في مركزه فعلاً لا قولاً.
لقد شاء القدر أنْ يضعنا -من حيث لا نريد- أمام اختبارٍ جديد: هل نحن أهلٌ لأن نتشرّف بهذه المدينة أم لا، نحن حينما ضيّعناها لم نكن أهلاً لها بالتأكيد، وهي لن تعود إلينا حتى نكون كذلك، وحتى نعرف قيمتها الحقيقية ونعتقد بها ونعمل من أجلها.
* المدير التنفيذي لمؤسسة القدس الدولية.