شعرٌ للقدس (الجزء الثاني)
طوّر الشعر الحديث المستجدّ في النصف الثاني من القرن العشرين أشكال القصيدة الحديثة ومضامينها، وقد أخذ يتناول قضايا جزئية أو معيّنة بشيءٍ من التخصص والتفصيل، بمعنى أنّه أخذ يركّز على تفريعات لم يكنْ الشعر "آنفًا" يوليها وقفة طويلة أو اهتمامًا مركّزًا. وعلى إثر الهزيمة العربية سنة 1967 غنّت فيروز قصيدة "زهرة المدائن" من كلمات الأخويْن عاصي ومنصور رحباني، فتردّدت الأغنية على الأسماع، وكان لها عميق الأصداء ومن كلماته:
عيوننا إليك ترحل كلّ يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء
يا درب من مرّوا إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كلّ يوم
وإنّني أصلي
وفي تقديري أنّ هذه القصيدة كانت المشروع المؤثر الأول لـ"قصيدة القدس"، وتلتها قصيدة نزار قباني (1923-1998) القدس، ويبدأها:
بكيت.. حتى انتهت الدموع
صلّيت.. حتى ذابت الشموع
ركعت.. حتى ملّني الركوع
سألت عن محمدٍ فيك وعن يسوع
يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء
وفي نهاية المقطوعة الرابعة يتساءل الشاعر:
من يوقف العدوان
عليك يا لؤلؤة الأديان..
وهذه القصيدة على غرار القصيدة المغنّاة من حيث لغة العشق والتفاؤل والبحث عن الخلاص، ومن حيث اللجوء إلى الرموز الدينية لاستشفاف المأساة، والسطران الأخيران فيهما أبعاد دينية.
وفي الشعر الفلسطيني لم أجدْ قبل قصيدة أمين شنار (1934) "بيت المقدس" مما يقع ضمن المواصفات التي حدّدتها لمفهوم "قصيدة القدس"، وإليك سطورًا منها:
هنا المآذن الحزينة التي تسامر النجوم
تمتدّ في وجوم
* * *
المسجد الأقصى هنا مسرى الرسول
مشى المسيح ها هنا وأمه البتول
وها هنا الفاروق شاد مسجدا
هنا صلاح الدين روى العدا
هنا الوليد والمجيد والشهيد..
ثم طلع علينا أديب رفيق محمود (1933) ابن عنبتا بالقصيدة الأولى عن القدس بعد احتلال حزيران 67، وهي بعنوان "كلمات بالإزميل على سور القدس"، يروي الراوي الشاعر كيف أنّه سافر ليصلّي في القدس، ويقبّل هناك البلاط ويمضي واصفًا لنا أجواء القدس:
أسير في الشوارع التي أحبّ شارعًا فشارعا
أقلب العينيْن في الجدران، في المطرز الفضفاض
في الشموع…
ثم يمضي الراوي مستوحيا تاريخ صلاح الدين:
أواه يا مدينة السلام
يا روعة الصهيل، كبة الخيول
تعبر الأبواب في وضح النهار
هذا صلاح الدين..
إنّه يودّ لو يستلّ سيف البطل ليقاوم هذه الحضارة المحنّطة، وليزيل القار، ليزجر الغراب… وفي مثل هذا الجو القاتم يعود ليستذكر جمال المدينة وروعتها:
أواه يا مدينة السلام، أين روعتك
أقول: أين بهجتك؟
يعترف الراوي أنّه يحبّ "باب السلسلة" ويعشق كلّ قوس، ويمرّ في كلّ باب تارةً مطأطئ الجبين، وتارةً باعتزازٍ وكأنّه يناطح السحاب، وفي عشقه للنقوش والزخارف يشعر بالعزلة والوحشة من خلال استلهامه التاريخ العربي القبلي:
ولست من قيسٍ ولا خزاعة
أنا الطريد والخليع والمعبّد المنفي
في بلادي المضاعة
يحدثنا عن وقوفه بخان "باب زيت" وهناك يشتري حاجته من بائعةٍ قدِمت من قرية "الخضر"، وينقل لنا صورة الحياة اليومية ببؤسها، وينهي قصيدته بالفعل "أريد" الذي يُلِحّ في المطالبة ونشدان الحق:
هلاّ عرفت ما أريد
أريد أن أكون صادحاً كما الكناري
أريد أنْ أكون ضاحكاً كما الوليد
حريّتي هي التي أريد
والقصيدة بمجملها تبحث عن السلام وعن الحرية، وتعكس هذا الحب للمدينة ومعالمها.