القدس قبلة القضية
ما من مدينة في التاريخ المعاصر تحتشد فيها الرموز والمعاني كالقدس. إنها مدينةُ الرموز والمعاني الجليلة لأديان التوحيد، وذاكرةٌ للأمم تختزنُ أحقاباً من التاريخ، وحاضرة تشهد لحضارة متجددة في حاضر أجيال يُضنيها التوقُ إلى صنع مستقبلٍ واعد.
في القدس معنى رامز إلى السيد المسيح -عليه السلام- وإلى قيامته المجيدة المتلازمة مع كنيسة ما زال اسمها يحمل معناها الروحي المتجدد على مرّ الزمن.
مع القدس، أولى القبلتين، تجلّت إشارةٌ رامزة إلى إسراءٍ ومعراج سماويين متلازمين مع سيرة الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- ومساره الروحي في الدنيا والآخرة.
للقدس مكان ومكانة في أيديولوجيا اليهود الصهاينة وسعيهم القديم الجديد إلى البحث في أنقاض التاريخ عن أثرٍ دالٍّ إلى هيكلٍ عتيق، حتى إذا حفروا ونقّبوا في كاملِ مساحة الأرض تحت "الحرم القدسي"، كذّبهم التاريخ وكشف زيف ادعاءاتهم، فما من أثرٍ باقٍ دال إلى هيكلٍ لم يقمْ يوماً إلاّ في مخيلةٍ مريضةٍ لصانعي أكذوبةٍ محبوكة. من دون القدس تصبح فلسطين مجرد مصطلح جغرافي. مع القدس تصبح قضية وطنٍ مغتصب وشعبٍ مشرّد وحقٍ غير قابل للتصرف، مضمونُه الحرية والكرامة والعودة.
تمثّل القدس في أسرها قضيةَ شعبٍ أسير في أغلال غربٍ أوروبي ثم أمريكي طاغٍ كان همّه وما زال من أيام بنرمان وبلفور إلى يومنا هذا الحؤول دون وحدة دنيا العرب بزرع جسم غريب على مقربة من برزخٍ ومضيق يفصلان قارةً عن أخرى. من هنا يكون تحرير القدس رمزاً ومنطلقاً لتحرير فلسطين بما هي همزةُ وصلٍ بين عرب آسيا وعرب إفريقيا.
إذ يكون لتحرير فلسطين هذا المدلول الاستراتيجي الرامز، فإن القدس تكتسب بذلك معنى قومياً جامعاً. ذلك بأن الوحدة لا تقوم ولا تصمد إلاّ إذا جاءت نتيجةَ فعلٍ تحرري وتحريري. فتحرير القدس يرمز إلى تحرير فلسطين وبالتالي إلى تحرير الأمة من عوائق حالت دون تكاملها ووحدتها وعودتها إلى حلبة الإبداع الحضاري.
إلى ذلك، ترمز القدس بمختلف جوانب قضيتها إلى معنى إنساني جامع. إنها في عمق تجربتها المرّة مع الاحتلال والاستبداد والاستلاب ملخصٌ لقضية الإنسانية كلها بما هي ضحية متكررة الحضور في شتى الأقطار والأمصار للمعذبين في الأرض بسبب الجنس أو الأصل أو اللون أو اللغة أو الدين أو المذهب أو الانتماء القومي أو الرأي السياسي أو الظروف الشخصية أو المنزلة الاجتماعية.
لهذه الأسباب تكتسب قضية تحرير القدس طابعاً وبعداً قوميين وإنسانيين في آن. وعندما يباشر الفلسطينيون والعرب مهمة تحريرها فإنما يفعلون ذلك باسم الأمة وباسم الإنسانية جمعاء. إنهم بفعلهم المبادر هذا ينتدبون أنفسهم للمهمة الجلل باسم الإنسانية ونيابة عنها. غير أنهم يعلمون أن تحرير القدس لن ينجح إلاّ إذا جاء نتيجة فعل إنساني متكامل، يلعب فيه العرب دور الطليعة المحفّزة والمتقدّمة.
أجل، القدس قضية العرب والعالم. تحريرها مهمة قومية وإنسانية، وهو عندما يتحقق يكون هدية الإنسانية إلى نفسها.
نقول هذا الكلام في مناسبة تجدّد الاجتماعات بين محمود عباس وإيهود أولمرت في محاولة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قضايا "خريطة الطريق".
قضايا "خريطة الطريق"، بل قضية فلسطين كلها، تتلخص في مسائل القدس، الاستيطان، الجدار العنصري الفاصل، الحدود، المياه (الجوفية خاصة)، الأسرى من تنظيمات المقاومة والمعتقلين السياسيين وعودة اللاجئين إلى ديارهم وبيوتهم. كل هذه القضايا، وغيرها أيضاً، قضايا استراتيجية عليا لا يمكن التفريط بها أو التهاون في شأن الحقوق غير قابلة التصرف التي تنطوي عليها.
ماذا ينتظر أبو مازن من أولمرت وقد أضحى في الهزيع الأخير من ليل ولايته الذاوية؟ وهل يجوز له أو لغيره أن يرضى بترضية بسيطة، عشية طيّ صفحة أولمرت، يكون من شأنها التأثير سلباً، بل الإساءة، إلى شرعية وحتمية التمسك بالقضايا والحقوق جميعاً؟
حذار، حذار، الإفراط والتفريط. حذار الإفراط بالتفاؤل والرهان على من يسمّون أنفسهم "معتدلين" وهم في الحقيقة غلاة المتطرفين منذ ولادتهم السياسية من رحم الصهيونية العنصرية.
حذار التفريط بالحقوق بتسويات جزئية لا تنطوي إلاّ على "تنازلات" ظرفية فقيرة المضمون، لا تخدم إلاّ العدو من حيث الإيحاء إلى العالم بأن الفلسطينيين تعبوا من الكفاح وأنهم سلكوا طريق التسوية المؤدية إلى الاستسلام.
وفي مطلق الأحوال، حذار التفريط بقضية القدس ولو بمقدار حبة تراب. القدس هي جوهر القضية ورمزها ونبض قلبها المتوثب في العروق.
القدس هي شرف الكفاح وموئله وعنوانه ونداؤه الصارخ في ضمائر الشرفاء والعرب الأحياء.
القدس هي القضية وقبلة المقاومة. فهل من صلاة بلا قبلة، أيها المقاومون الشرفاء؟!