رواية بدّو (2)
الفصل الأول
(2)
كأنّني وأنا أعود إلى تلك الأيام، ألمس تفاصيل المكان الذي أمسَكَ على بوّابته طفولتي، وأعطاني أول خيط أنسجُ منه مرحلة جديدة من العمر تتهادى، بطيئة، غامضة، لكنّها تنقلني شئت أم أبيت إلى مرحلة أخرى..
أأسمّيها مراهقة لذيذة.؟ أم أسمّيها انبعاث عسير من نقطة واهية، لكنّها فاصلة، ودّعت طفولة ضاعت بين الأسلاك، وزحمة الفقر، وعقم السؤال، ففرّت من عمري.؟ إلى بريق مجهول قادم يتدحرج أمامي، ألحقه، أمسكه، يهرب منّي تارة، وأهرب منه تارة أخرى، ينتصر أخيراً ويعلن أنني دخلت عالم الصبا والشباب..
وتبقى قلندية مهدي الأول، وتبقى الذكرى براقي الذي يحملني إليها كلما هاج بي الحنين..
في الساعة السابعة مساءً نتناول طعام العشاء، ونأوي إلى غرف النوم، نقطع الوقت في الدراسة وتحضير واجبات اليوم التالي، أو في التسلية حتى الساعة التاسعة موعد النوم الإجباري. وإطفاء الأضواء..
وهكذا تمضي الأيام ثقيلة رتيبة في المركز الواسع الذي يحتل مساحة تتجاوز عشرة آلاف متر مربع إلى جانب طريق عام "القدس-رام الله" وفي موقع مثالي إلى جانب مطار القدس، حيث تقع قرية "قلندية" والمخيم الملاصق لها..
أقيمت على أرض المركز الواسعة، أبنية أنيقة، وانتشرت حدائق غنّاء نظيفة بين الأقسام المختلفة وبين ملاعب كرة القدم والسلّة وغرف الدراسة والورشات والمطبخ والمستودعات وصالات الطعام والرياضة والمطالعة والإدارة والمبنى الكبير ذو الطابقين الذي يضم غرف النوم، والذي يبعد مسافة معقولة عن بيت "السيد هنري" مدير المركز، القائم أمام البوابّة الرئيسة، وعن مكان إقامة الأساتذة والمدربين.
بينما تقوم غرفة المشرف السيد "أبو شهاب" أمام المدخل الرئيسي للبناء الكبير المحتوي على غرف نوم الطلاب، بعيداً عن غرف الحرس المنتشرة على أركان المركز من جهاته الأربعة وعمال الحدائق والمطبخ والعاملين فيه..
ويحيط بالمركز من جميع جوانبه سور مرتفع من الحجارة عليه شريط شائك، وفوانيس جميلة تضاء ليلاً، فتعطي المركز منظراً مشابهاً لمعسكر أو معتقل أو ثكنة عسكرية..
أمّا في يوم الخميس من كل أسبوع، فإنّ شكل الصورة يتبدل بالكامل، فما أنْ ننتهي من تناول طعام الغداء حتى يتسارع الطلاب إلى الغرف لتحضير أغراضهم استعداداً لقضاء عطلة نهاية الأسبوع بمغادرة المركز والذهاب إلى بيوتهم في القرى والمدن القريبة وحتى صباح يوم السبت..
كان أمر الإجازة الأسبوعية بالنسبة لي غاية في الصعوبة، فمن المتعذّر عليّ أن أسافر إلى بيتي البعيد في "الشام" والعودة في يوم وليلة، وهذا ما فرض علّي البقاء وحيداً في المركز الواسع على الأقل في الأيام الأولى من انتسابي إليه..
"يتبع",,,