التّطبيع العربي مع الاحتلال: ارتماء في حضن "إسرائيل" وارتهان لرعاة الاستعمار
الخميس 1 آذار 2018 - 1:03 م 7384 0 مقالات |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدولية
تتوالى منذ عامين تقريبًا الأخبار والتّقارير وعلى نحو مضطرد عن علاقات عربية –إسرائيلية يوحي تطور الكلام عليها بأنّها ليست وليدة اليوم أو حديثة العهد، بل هي علاقات قديمة، لكنّها بدأت تأخذ طريقها إلى الإعلام في وقت لا يجد فيه المطبّعون حراجة في كشف هذه العلاقات التي تبدأ بالمصافحات ولا تنتهي بتبنّي الموقف الإسرائيلي ودعمه، والتنصّل من القضية الفلسطينية لخدمته. اللقاءات العلنية مع مسؤولين إسرائيليين وفتح المجال أمام هؤلاء للمشاركة في مؤتمرات تقام في دول عربية، وصولاً إلى السماح بدخول أحد الصحفيين الصهاينة إلى المسجد النبوي ليتحدّث عن "التعايش"، كلّ هذا ما كان ليبلغ هذا المدى المتقدّم من دون تقديرات عربية بأنّ إنشاء علاقة متينة مع دولة الاحتلال وتقاسمها العداوة ضد إيران ستتيح المجال أمام رضى البيت الأبيض، ليكون هذا الرضى سلاح المرحلة القادمة يشهره المطبّعون في وجه الشّعوب العربية ويكون عنوانًا لشرعيّتهم، إذ يخيّل إلى البعض أنّ الرضى الأمريكي هو مفتاح الحكم وإكسير استمراره. وإلى جانب ذلك، فثمّة انفلات من أيّ معيار أخلاقي جعل العدو صديقًا وحليفًا، يبرّر التحالف معه تارة تحت عنوان مكافحة الإرهاب، وطورًا تحت شعار التصدّي لخطر إيران وكبح نفوذها في المنطقة.
قنوات التطبيع بين بعض الدول العربية ودولة الاحتلال شُرّعت اليوم على مصراعين يفتح أوّلهما على علاقات صداقة وتحالف، والآخر على تصفية القضية الفلسطينية بما يخدم خطة يعمل على بلورتها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وحاشيته، وهم كلهم متحالفون مع "إسرائيل" لتحقيق "سلام" لا يكشف إلا عن هضم الحقوق التاريخية والسياسية للفلسطينيين مقابل تمكين "إسرائيل" ممّا سرقت ومكافأتها على جرائمها المتمادية بحقّ الشعب الفلسطيني، ولا يبدو أن ثمة نهاية للأخبار الواردة عن التطبيع مع الاحتلال والانفتاح على العلاقات معه في البرّ والبحر والجو.
تأتي هذه الاندفاعة العربيّة باتّجاه التّطبيع مع "إسرائيل" في وقت يدرك فيه المسؤولون العرب أنّ الكيان الذي كان تتويجًا للمشروع الصهيوني الذي تحالف مع الاحتلال البريطاني لفلسطين، لن يتنازل عمّا سرق واغتصب، ولن يضيره أن يسرق المزيد، تحت مظلة عربية يفاخر بأنّها تشاطره الرؤى والأهداف. وهي اندفاعة تأتي أيضًا فيما المطبّعون يدركون أنّ التّطبيع سيصبّ في مصلحة "إسرائيل" حصرًا لتضفي الشّرعية على احتلالها وسياساتها المرافقة له، وعلى اعتداءاتها على الفلسطينيين والأرض والمقدّسات.
وبالفعل، فإنّ هذا الانفتاح العربي على تمتين العلاقات مع دولة الاحتلال هو ما يجرّئ هذا الأخيرة على تصعيد اعتداءاتها على الأرض والشعب والمقدسات، فقد استفادت "إسرائيل" من دفء النبرة العربية في التعاطي مع اعتداءاتها، وهو دفء لم يعد مقتصرًا على الاكتفاء بإدانات روتينية للاعتداءات الإسرائيلية بل تعدّى ذلك لينقلب إداناتٍ لحركات المقاومة ووصمها بالإرهاب، ولأيّ حراك في الشارع الفلسطيني يستهدف الاحتلال ومستوطنيه ووصفه بالعمل العنفي أو الإرهابي، والتغاضي عن التهويد المتصاعد في الأقصى، لينعكس القبول به رقصًا على أنقاض المسجد والدعوة إلى بناء "المعبد" مكانه كمشهد تستضيفه واحدة من دول التّطبيع تحت مسمّى التسامح الديني.
كذلك، فإنّ هذا اللهاث وراء التطبيع مع الاحتلال هو ما جرّأ الرئيس الأمريكي وطاقمه، ضمن عوامل أخرى، على ابتزاز المقدسيين، والفلسطينيين، وكلّ معنيّ بالحقّ الفلسطيني ومدافع عنه، على إعلان القدس عاصمة لدولة الاحتلال والتحضير لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وفرض "خطة سلام" أمريكية-إسرائيلية يتعهّدها هذا المقاول أو ذاك التاجر.
إنّ التّطبيع عار على من يخوضون فيه ويدعمونه ويبرّرونه ويدافعون عنه، وهو خيانة لعهد القدس، ولدماء الشهداء، هو خيانة لجبل من التضحيّات ولأجيال مقاوِمة من ثورة البراق وما قبلها إلى هبّة باب الأسباط وما بعدها، ولعلّ التقديرات العربية بأنّ التطبيع مع الاحتلال سيفتح لهم جنّة الرضى الأمريكي عنهم، وبأنّ وأد القضية الفلسطينية سيريحهم من "عبئها" هي أوهام محضة حيث إنّ التسابق لكسب رضى الرئيس الأمريكي، وهو لن يرضى، لن ينتج إلا غضبًا في الشارع العربي، والتّسابق على تضييع القضية الفلسطينية لن يثمر سلامًا أبدًا، فالسلام لن يكون بقتل القضيّة وما يكتنفه ذلك من تنازل عن حقّ العودة، وتفريط بالقدس والمقدسات.
إنّ القضية الفلسطينية لم يُكتب لها أن تبقى إلى يومنا هذا إلا بتضحيات أهلها ونضالهم، ورفضهم مشاريع التسوية، وتمسّكهم بالمقاومة بأشكالها كافّة، وبدعم من أحرار العالم، وهي لن تنتهي بتخلّي البعض عنها ولا بتهافتهم على مصافحة أيدٍ قتلت بني جلدتهم ظلمًا وعدوانًا، أماّ المراهنة على الرضى الأمريكي فتبقى مراهنة خاسرة، لا سيّما مع التغيرات التي تفرض نفسها على المشهد الدولي، وهو رضى لن يلبث أن يجفّ حين يجفّ نبع المصالح وينفذ مال الرشى التي بها يُشترى القبول الأمريكي لأنظمة تقتل شعبها، وتتواطأ ضدّ مصالحه، وتتنازل عن حقّه.