من هبّة باب الأسباط إلى هبّة باب الرحمة: انتصارات تصنعها الجماهير
الأحد 14 تموز 2019 - 4:48 م 3797 0 مقالات |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدوليةنشهد في هذه الأيام مرور عامين على عملية الجبارين التي نفذها يوم الجمعة 14/7/2017 ثلاثة فلسطينيين من الداخل المحتل عام 1948، التي أعقبها حراك شعبي عرف بـ "هبة باب الأسباط". كانت العملية صادمة بالنسبة إلى الاحتلال الذي أغلق الأقصى بذريعتها، ومنع رفع أذان الجمعة وأداء الصلاة في المسجد. وتفتّق التفكير الإسرائيلي حينها عن خطوات، صدّرها كإجراء ضروري للمحافظة على الأمن في الأقصى، لكنّها كانت في حقيقتها خطوة من الاحتلال لفرض تغيير جديد في الوضع القائم التاريخي، يضاف إلى الاعتداءات المتمادية على المسجد التي يعمل الاحتلال على تكريسها أمرًا واقعًا يعرّف به سيطرته على المكان. فكان "الحلّ" الإسرائيلي تركيب بوابات إلكترونية على أبواب المسجد وكاميرات مراقبة لتوسيع سطوته الأمنية ويعزّز دوره في موازاة عمله لضمان تآكل الوصاية الأردنية وذوبانها في سياق سطوته.
فتح الاحتلال الأقصى بعد تركيب بوابات التفتيش في 16/7، إلّا أنّ المقدسيين رفضوا الدخول عبر البوابات مستذكرين ما فرضه الاحتلال في المسجد الإبراهيمي بالخليل، حيث تمكّن من فرض سيطرته الكاملة على المسجد وتفعيل مخطّط التقسيم الزماني والمكاني هناك. الرفض المقدسي كان مفاجئًا للاحتلال: البوابات مفتوحة، والمقدسيون يأبون الدخول، ويصلون خارج المسجد عند أبوابه وفي الطرقات المؤدية إليه.
على مدى أيام، برز الوعي الجماهيري في أقوى صوره، وفرض المقدسيون موقفهم على القيادات الفلسطينية، وعلى الأوقاف الأردنية، وأمام مشهد الاعتصام بالصلاة عند البوابات لم يكن من الحكمة لدى أيّ طرف السير في عكس ما يطلبه الشارع. وبدا واضحًا أنّ الإسرائيلي في مأزق، وهو يبحث عن مخرج يحفظ به ماء وجهه: المسلمون لن يدخلوا المسجد عبر البوابات وبقاؤهم خارج المسجد لن يكون في مصلحة الاحتلال؛ لكن في الوقت ذاته فإنّ انصياعه لإرادة الجماهير وإزالة البوابات سيثبت أنّ مزاعمه حول السيادة الإسرائيلية على الأقصى تحتاج إلى إعادة نظر!
أكّدت هبة باب الأسباط أهمية الدور الذي تلعبه الجماهير في تغيير المعادلات، فالتحام الصفوف، وتماسك الموقف، ووضوح الرؤية، والوعي بالأهداف، وإدراك المخاطر المترتبة على السماح للاحتلال بتمرير إجراءاته، كلّ ذلك جعل الشارع الأعزل من السلاح أقوى من المحتلّ المدجّج به، وخُتم المشهد على قوات الاحتلال تزيل البوابات الإلكترونية قبل بزوغ فجر يوم 28/7/2017، تجرجر خيبتها في الظلام، ليدخل المسلمون إلى المسجد محتفين بنصر هبة باب الأسباط، وقد غلبت كلمتهم، وخلاصة موقفهم أنّ الأقصى ليس مكانًا للصلاة وحسب، بل هو جوهر معركة التحرير أيضًا، وأحد الميادين المهمة لإجبار العدو على التراجع.
وقد كان النصر عام 2017 من أبرز الصفعات التي تلقاها الاحتلال في الأقصى، وبالنسبة إليه ثمة خطر كبير في التراجع أمام الجماهير، إذ إنّ هذا الخطر يمسّ أساس قدرته على الردع، يضاف إلى الهزائم العسكرية التي مني بها منذ عام 2006 في لبنان وغزة، بما أثّر في صورته.
بعد عامين، يتكرر المشهد: هذه المرة في هبة باب الرحمة، التي تمكّن فيها المقدسيون من إجبار العدو على التراجع مرة أخرى. ففي شباط/فبراير نجح المقدسيون في فتح باب الرحمة الذي أغلقته شرطة الاحتلال عام 2003 استنادًا إلى قرار مزعوم من محكمة الاحتلال. فتح باب الرحمة كان بعد تركيب شرطة الاحتلال قفلاً على البوابة الواقعة أعلى الدرج المؤدي إلى المكان بعدما أدّى أعضاء مجلس الأوقاف يوم 17/2/2019 الصلاة في المبنى في أثناء جولة تفقدية فيه. فالقفل كان رسالة مفادها أنّ الاحتلال هو من يقرّر من يصلي أين في الأقصى، وأيّ الأماكن مسموح دخول المسلمين إليها وأيّها "محرّمة" عليهم. وقد فهمت الجماهير هذه الرسالة جيدًا، فكان الردّ: نحن أصحاب القرار! وقد استجابت الأوقاف للجماهير وإرادتها، وتساوقت مع مطلب إعادة باب الرحمة إلى ما كان عليه قبل اعتداءات الاحتلال على الوضع القائم فيه.
لكن الإسرائيلي الذي لم ينسَ هزيمته عام 2017 بعد، حاول أن يتجنب مواجهة مع الجماهير مماثلة لما جرى في هبة باب الأسباط، وحاول الانحناء أمام العاصفة ريثما تهدأ الجماهير وتنفضّ عن الصلاة في المبنى. ومع صعوبة إعادة إغلاق المكان مرة جديدة، ركزت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين في اتجاه واحد: باب الرحمة لن يكون مسجدًا أو مصلّى، وإن كان من الممكن الصلاة فيه مثل أيّ مكان آخر. ولا يزال الاحتلال إلى اليوم يعمل لمنع تكريس باب الرحمة مصلى: من منع الاعتكاف فيه في شهر رمضان، واعتقال "المخالفين"، ومصادرة خزانات الأحذية، والقواطع الخشبية التي تفصل بين الرجال والنساء، وغير ذلك من الإجراءات التي تهدف إلى إفراغ باب الرحمة من أيّ مظهر من مظاهر المصليات والمساجد.
قالت هبتا باب الأسباط وباب الرحمة الكثير عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الجماهير في صياغة النصر وصناعته، وأظهرت الهبتان القدرة الشعبية على تحدي الاحتلال وإرغامه على الخضوع والتراجع. إلّا أنّ النصر الذي أنجز في عام 2017 يحاول الاحتلال تشويهه في عام 2019، ومنعه من أن يتبلور كاملًا لما يعنيه ذلك من تراجع له في المسجد الأقصى. ومع استمرار محاولات سرقة إنجازات هبة باب الرحمة وإجهاضها، تبقى دروس هبة باب الأسباط حاضرة للاستفادة منها واستكمال أركان النصر في معركة السيادة والتحرير.