الجريمة في "إسرائيل" والإفلات من العقاب
الخميس 1 آب 2019 - 2:08 م 3014 0 مقالات |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدوليةلم يكد يمرّ عام على إحراق مستوطنين الطفلَ المقدسي محمّـد أبو خضير حتى الموت حتى أقدم مستوطنون على إحراق منزل يعود لسعد دوابشة في دوما في نابلس. الجريمة التي ارتُكِبت في 31/7/2015، أسفرت عن استشهاد الرضيع علي، ولحقه أبواه بعد أيام، فيما لم ينجُ أحمد، ذو السنتين، من الموت إلا وقد أصيب بجروحٍ بالِغةٍ استدعت رحلة طويلة من العلاج، ولا تزال آثارها على جسد أحمد ووجهه شاهِدة على بشاعة الجريمة. وقد أعلنت شرطة الاحتلال، في 9/8/2015، اعتقال أربعة مستوطنين، بينهم قاصران، للاشتباه فيهم بارتكاب الجريمة.
في كانون الأول/ديسمبر من العام ذاته، نشر الإعلام العبري مقطع فيديو عُرِف بـ "عرس الدم"، وظهر فيه مستوطنون يرقصون على وَقْع أغانٍ تُنادي بالانتقام من الفلسطينيين وقتلهم، فيما ظهر مستوطن يطعن صورة الرضيع الشهيد علي. لم تخرج جريمة إحراق عائلة دوابشة عن سياق الجرائم التي ارتكبها الاحتلال ومستوطنوه منذ وطأت أقدامهم أرض فلسطين، أمّا الاحتفال بالجريمة فلا يخرج بدوره عن الاحتفال الإسرائيلي بقتل الفلسطينيين، والتعطّش له منذ ما قبل النكبة، وهو قتل بارَكه في كيان الاحتلال رجال الدّين قبل رجال الدولة!
في إطار المحاكمة وتطوّراتها، وعلى الرغم من بشاعة الجريمة وإعادة تمثيل أحد المُتورّطين مُشاركته فيها، أعلنت النيابة العامة الإسرائيلية، في أيار/مايو 2019، عن التوصّل إلى صفقةٍ مع واحدٍ من المُشتبه فيهم تقضي بإسقاط تهمة القتل العَمْد من لائحة الاتهام، والاكتفاء باتّهامه بالتّخطيط لحَرْقِ بيتٍ في دوما وليس التآمُر للقتل؛ ولم يعلن أيّ شيء عن لائحة الاتهام المُتعلّقة بالمستوطنين الثلاثة المُتبقّين الذين شاركوا في تنفيذ الجريمة. وفي حزيران/يونيو، امتنع المُتّهم عميرام بن أوليئيل عن الإدلاء بشهادته في جلسة المُحاكمة "ليُعبّر عن شعوره بالظلم في المرحلة الأولى من إجراءات المُحاكمة"، وَفْق تصريح مُحاميه؛ وهذا مؤشَّر على سعي المُتّهم ومُحاميه إلى ممارسة الضغط على النيابة العامة كي تتنازل عن التّهم الموجَّهة ضدّه.
هذا التراجُع عن الإدانة لم يكن أمراً طارئاً وخارجاً عن سياق التعامُل القضائي مع جرائم المُستوطنين، فقد أمرت المحكمة المركزية في اللد، في أيار/مايو 2019، بإطلاق سراح المُستوطِن المُتّهم بقتل الفلسطينية عائشة الرابي، وتحويله إلى الاعتقال المنزلي. وكانت المحكمة قد أطلقت سراح عدد من طلاب المدرسة الدينية في "رحليم" إلى الاعتقال المنزلي، شاركوا مع المُستوطِن في رَشْقِ سيارة الرابي بالحجارة في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، ما أدّى إلى مقتلها. الأمر ذاته تكرَّر في ملف الشهيد المُقْعَد إبراهيم أبو ثريا الذي قتلته قوات الاحتلال أثناء مُشاركته في مسيرات العودة في غزَّة في كانون الأول/ديسمبر 2017. فقد أغلقت المحكمة الملف من دون اتخاذ إجراءاتٍ قضائيةٍ ضد أيّ من الجنود والضبّاط، وادّعت "وحدة التحقيق الجنائي" في جيش الاحتلال أنّه "بعد استجواب الجنود ومُراجعة شرائط الفيديو للحادث لم يظهر أيّ دليل على أن أبي ثريا قـتل بنيران مباشرة من الجيش الإسرائيلي"! والمقام هنا لا يتَّسع للحديث عن كلّ "جرائم" القضاء الإسرائيلي التي برّأ فيها المُستوطنين من ارتكاباتهم ضدّ الفلسطينيين.
ويؤكِّد هذا التعاطي "القانوني" مع جرائم المُستوطنين ضدّ الفلسطينيين أنّ دولة الاحتلال ترعى البيئة الحاضِنة لهذه الجرائم، وتغذِّيها وتشجِّع على المزيد منها، وقد لا يكون ذلك مَثار استغراب قياساً على حقيقة أنّ تأسيس الكيان كان قائماً على سلسلةٍ طويلةٍ من جرائم الإحراق، والقتل، والتهجير، والإبادة، التي نفَّذها ضدّ الفلسطينيين منذ ما قبل نكبة عام 1948.
وتُذكِّرنا جرائم المُستوطنين وتعاطي القضاء الإسرائيلي معها بتعاطي القضاء مع جرائم اليهود إبّان الاحتلال البريطاني لفلسطين، ففي مُقابل التشدّد ضدّ العرب كان التهاون مع اليهود واضحاً، إلى حدّ تسهيل إفلاتهم من العِقاب. ويروي المُناضل بهجت أبو غربية في مذكّراته التي حملت عنوان "في خضمّ النضال العربي الفلسطيني"، ما مفاده أنّ المستوطنين لجأوا ابتداء من تشرين الأول/أكتوبر 1937 إلى مُهاجمة الباصات بالرصاص والقنابل، ما أدَّى إلى قتل عددٍ كبيرٍ من ركَّابها العرب. وفي 14/11/1937، أطلق المُستوطنون النار على باصٍ تابعٍ لشركة الباصات العربية لدى مروره في قرية أبو غوش والمستوطنة المجاورة، فقتل ثلاثة من ركابه العرب. وتحرَّك قائد مخفر بوليس أبو غوش الضابط الشاب أسعد كمال السعدي وألقى القبض على أحد أفراد البوليس الفلسطيني التابعين لمخفر أبو غوش، وكان يهودياً. وثبت بموجب التحقيق معه أنّه أطلق النار من بندقيته الحكومية فيما كان يرتدي لباس البوليس الرسمي، فأمر بتوقيفه ثم قُدِّم إلى المحاكمة أمام محكمة القدس العسكرية.
ونظراً إلى أنّ المُرتِكب يهودي، فقد أوكلت الهيئات اليهودية عدداً من كبار المحامين للدّفاع عنه، ولمّا كانت أدلّة الاتّهام دامِغة، فقد ركَّز المحامون اليهود على مُناقشة الضابط الفلسطيني مُدَّعين أنّه زيَّف الأدلّة ضدّ المُتهم بسبب عدائه لليهود، ومع استحكام الأدلّة قال المحامون اليهود إنّ قوانين المحكمة العسكرية لم توضع لتُطبَّق على اليهود بل على العرب! وعلى الرغم من انحياز المحكمة إلى المُتَّهم، ومناورات المحامين اليهود، إلا أنّ السعدي استطاع أن ينتزع من المحكمة حُكماً بإعدام المُتَّهم. ويختم أبو غربية قصّته بالقول: "انتظرنا من القائد العام للجيش البريطاني الجنرال ويفل أن يُجيز الحُكم مساء ذلك اليوم كما كان الأمر مع العرب، فلم يفعل. واستمر انتظارنا طويلاً فلم تصدر الموافقة بل خفّض الحكم إلى السجن، برغم من قوّة الأدلّة وبشاعة الجريمة".
إذًا، هي منظومة راعية للإجرام تُبيح أوّلاً جرائم اليهود ضدّ "الأغيار" وتحرّض عليها، ومن ثمّ تحرص على أن تمرّ هذه الجرائم بأقلّ عِقاب، أو حتى من دون عِقاب. وتستوي في ذلك جرائم المُستوطنين وجرائم حكومتهم ضدّ غير اليهود، وقد كان من آخرها مجزرة الهدم في حيّ وادي الحمص، وهي جريمة أخرى مُرشَّحة لأن تمرّ من دون عِقاب تحت نظر رُعاة الاستعمار في العالم، ومُباركتهم.
المصدر: الميادين نت، 25/7/2019