ستة وعشرون عامًا على اتفاق أوسلو: النّهج الذي لم يبنِ وطنًا!
الجمعة 13 أيلول 2019 - 8:53 ص 3566 0 مقالات |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدوليةفي 13/9/1993، وقّع في واشنطن اتفاق أوسلو بين دولة الاحتلال ومنظّمة التّحرير الفلسطينيّة، ليشكّل منعطفًا في الصراع العربي الإسرائيلي، وانقلابًا على الثوابت الفلسطينية، حيث اعترفت المنظمة بدولة الاحتلال على 78% من فلسطين التاريخية، وبحقّها في العيش بسلام وأمان، والتزامها بالمفاوضات لحلّ كل القضايا الأساسيّة المتعلّقة بالأوضاع الدّائمة، وإدانة استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى (وهذا التّعبير هو لوسم أعمال المقاومة ضدّ الاحتلال)، وأنّ بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر "حق إسرائيل" في الوجود لم تعد سارية، فيما قررت "إسرائيل"، وفق رسالة رابين إلى عرفات، "الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها ممثلة للشعب الفلسطيني وأن تبدأ المفاوضات مع منظمة التحرير في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط".
جزّأ اتفاق أوسلو القضية الفلسطينية إلى ملفّات أو قضايا، تحت مسمّى قضايا الحلّ النهائي، ومنها القدس واللاجئون والمستوطنات، وأسوأ من ذلك أنّ الاتفاق طرح هذه القضايا كموضوع للتّفاوض، ما يعني إمكانية إخضاعها للمساومة والتّنازل من الجانب الفلسطيني، لا سيّما أنّ نهج أوسلو قائم على إضعاف الفلسطينيين عبر استعداء المقاومة، وتجنيد السلطة الفلسطينية التي نشأت العام اللاحق من أجل محاربة المقاومة، والقضاء على أيّ تحرّك ضدّ الاحتلال. استفردت دولة الاحتلال بقضايا الوضع النّهائي، وعملت بما يمهّد لتصفيتها عبر سياسة فرض الحقائق على الأرض وتكريسها كأمر واقع يسهل فرضه على الفلسطينيّين في إطار الإملاءات التي يمكن تمريرها تحت عنوان التّوصل إلى اتّفاق سلام.
بعد 26 عامًا على توقيع اتفاق أوسلو، لا الدولة قامت ولا السّلام تحقق، فيما بات الشعب الفلسطيني رهينة للاحتلال وداعميه، بينما تعمل الولايات المتحدة على تصفية القضية الفلسطينية، وكانت فاتحة هذه التّصفية إعلان ترمب القدس عاصمة لدولة الاحتلال في 6/12/2017، وتصريحه لاحقًا بأنّ القدس، الموضوع الشّائك والمعقّد في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أزيلت عن طاولة المفاوضات، ليتبع ذلك بالتّصويب على قضيّة اللاجئين مع تكشّف الاتجاه إلى تصفية الأونروا وإصدار أعداد جديدة حول اللاجئين يقصرهم على أقلّ من مليون تمهيدًا للتّوطين، ونقل السفارة الأمريكية من "تل أبيب" إلى القدس في أيار/مايو 2018.
لقد أثبتت السنوات الست والعشرون منذ اتفاق أوسلو أنّ مسار التسوية السياسية لا يمكنه أن يحصّن الحقّ الفلسطيني أو يقود إلى الخلاص من الاحتلال، بل على العكس من ذلك رسّخ هذا المسار الاحتلال وكان الاتفاق إشارة تشجيع للسلطات الإسرائيلية للمضيّ في سياسة فرض الحقائق على الأرض. لقد قسم الاتفاق المقسّم، وجزّأ القضية الفلسطينية إلى قضايا وملفات، وأدخل الفلسطينيين في حلقة مفرغة من التفاوض على ما لا يقبل المساومة. وتساوق بعض الفلسطينيين مع الاتفاق، لا سيما منهم من وجد في أوسلو كنزًا من المكاسب الضيقة، ونجح التّنسيق الأمني في تقييد يد المقاومة في الضفة الغربية المحتلة. ومع خفض السلطة الفلسطينية سقفها، لا سيّما مع إصرارها على نبذ المقاومة، كان عليها أن تسير في طريق من التنازلات لإرضاء الإسرائيلي، ومن خلفه راعيه الأمريكي، لكن خلص بها الأمر إلى مشهد تنازلت فيه عن الكثير من الثوابت ولم تحصّل من الرضا حتى قليله.
غير أنّه في مقابل هذا المشهد، كانت انتفاضة الأقصى عام 2000، وانتفاضة القدس عام 2015، وهبة باب الأسباط 2017 ومن ثم هبة باب الرحمة في 2019، محطات تؤكّد موقف الشارع الفلسطيني من اتفاق أوسلو، ومن الاحتلال. أمّا في غزّة فقد أجبرت المقاومة الاحتلال على الانسحاب وتفكيك المستوطنات عام 2005 ليتأكّد بذلك وجوب التّمسك بمسار المقاومة، واحتضانه كعنصر قوة يمكن أن يرفد الحل السياسي لمن يتمسّكون به. وإلى اليوم لا تزال غزة متمسكة بهذا المسار المقاوم ضدّ كلّ ما فرضه أوسلو من تنازل وتراجع، والمقاومة أجبرت الاحتلال على الانكفاء في غير مرة على مدى الأعوام السابقة التي تلت الحروب الإسرائيلية على القطاع، التي كان آخرها عام 2014، وأثبتت جهوزية عالية ضربت صورته في خانيونس في تشرين ثانٍ/نوفمبر 2018. أمّا مسيرات العودة، التي لا تزال مستمرة منذ 30/3/2018، فهي أوضح تعبير عن الموقف الشعبي الفلسطيني الرافض للاحتلال، ولصفقات تصفية القضية الفلسطينية، ومثلما خرجت هذه المسيرات تحت عناوين نصرة القدس والأقصى وحق العودة، وغيرها، فهي تتحضّر لتكون مسيرتها اليوم الجمعة تحت عنوان "فلتُشطب أوسلو من تاريخنا"، ليس رفضًا للاتفاقية وحسب، بل لكلّ ما يمكن أن يترتّب عليها أو يماثلها من اتفاقيات تنازل واستسلام في المستقبل.
بعد 26 عامًا من توقيع أوسلو، يأتي الأمريكي ليقول إنّه لا يؤمن بقدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم، وإنّ الأمن الإسرائيلي هو فوق كلّ اعتبار، وفوق حقّ أيّ شعب في إقامة دولة، وفي موازاة ذلك، تبقى عينه على التّخلص من المقاومة، عبر التضييق على كل من يُحسب عليها وعلى البيئة الداعمة لها، بعدما فشل الاحتلال في حروبه كلّها في القضاء عليها أو إخماد جذوتها. إنّ بين نهج أوسلو والتمسّك به من جهة ونهج رفضه واعتناق المقاومة من جهة أخرى مسافةَ وطن يأبى أن يؤسَّس على رضا الاستكبار الأمريكي وأدواته في المنطقة، ويرفض أن يُبنى وفق ما يقرّره الاحتلال، وقرار الاحتلال ألّا يكون للفلسطينيين وطن، الأمر الذي يحتّم على من سلّموا أمرهم لأوسلو مراجعة خياراتهم ومواقفهم التي جعلت الاحتلال المستفيد الوحيد من مسرحيّة السلام المزعوم.