"السجود الملحمي": اختراع استعماري للطقوس
الأربعاء 30 تشرين الأول 2024 - 12:29 م 17 ورقة معلومات |
"السجود الملحمي": اختراع استعماري للطقوس*
زياد ابحيص
* النسخة الاولى لهذه المادة نُشرت كمقال على موقع متراس
كان الانبطاح الكامل على الوجه، والمسمى بالـ"السجود الملحمي" هدفاً تسعى جماعات الهيكل المتطرفة إلى فرضه في المسجد الأقصى المبارك بشكلٍ تدريجي بدءاً من عام 2017 وفرضته بشكل جماعي في المسجد الأقصى في اقتحام الذكرى العبرية لاحتلال القدس في 29-5-2022، ثم أخذت تفرضه بشكلٍ يومي باعتباره جزءاً طبيعياً من "حقوق اليهود" في المسجد الأقصى بدءاً من اليوم المسمى "ذكرى خراب الهيكل في 13-8-2024، وذلك بعد قرار وزير الأمن القومي الصهيوني إيتمار بن جفير الذي اعتبره جزءاً من "حق العبادة" لليهود في المسجد الأقصى؛ فما هو هذا الطقس الديني وما أصوله وأهدافه؟ ولماذا تركز عليه جماعات الهيكل إلى هذا الحد؟
مصطلح "السجود الملحمي" هو تعريبٌ غير حرفي يحاول التعبير عن المعنى التوراتي للكلمة العبرية השתחוויה والتي تلفظ (هَشتَحَفَيَه) ويشير باحثو العبرية القديمة إلى أن أصل لفظها (هَشتحَويه)[1]، وهي تدمج بين معنى السجود بالوجه "الانبطاح" وبين معنى "التجربة الروحية"[2]، وتُعرّفها المراجع الدينية الشارحة للتوراة استناداً للجيمارا بأنها "السجود الكامل للرب مع بسط الأيدي والأقدام والنظر بالوجه تجاه الأرض، وهي أعلى أشكال الخضوع للرب، ونكران الذات وتسليمها له"[3]، ويعيدون ممارستها الأولى إلى "الملك داوود" بالفهم التوراتي –النبي عليه السلام بالفهم الإسلامي، حين دخل إلى الهيكل المزعوم داعياً الرب " أَمَّا أَنَا فَبِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ أَدْخُلُ بَيْتَكَ. أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ بِخَوْفِكَ"[4] (سفر المزامير 5:8)، فقد كان هذا السجود أسمى أشكال استحضار نعمة الرب وإنكار الملك داوود لذاته أمام الرب على عظمة ملكه، وتسليمه له وشكره على نعمته، فبات هذا السجود وما يستحضره من تجربة روحية أسمى أنواع الخضوع للرب في اليهودية، مع الالتصاق بالأرض، ومن هنا جاء نحت المصطلح التعريبي له "السجود الملحمي".
تُميز التعاليم التوراتية ما بين ثلاثة أشكال من السجود[5]: الأول هو الانحناء أثناء الوقوف بحيث يصبح الوجه مقابلاً للأرض، في وضع أقرب للركوع في الإسلام، ويسمى بالعبرية קידה (قِيْدَه) ، وهو الشكل الأكثر شيوعاً في العبادة التوراتية المعاصرة، والثاني يتمثل بوضع الركب على الأرض وملامسة الوجه للأرض في وضع يشبه السجود الإسلامي لكن مع مد الذراعين للأمام ملامسين للأرض ويسمى بالعبرية כריעה (كِرِيْعَه)، وهو شكل أقرب لطلب المغفرة وينسب أصله إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام بحسب التوراة وهو مندثر اليوم، والثالث هو السجود الملحمي وهو أعظم أشكال هذا السجود.
وتتفق عدة مراجع توراتية على ثلاث قضايا أساسية تتعلق بالسجود بأنواعه الثلاثة[6]:
أولاً: أنه مطلوب وفق التعاليم في ثلاثة أيامٍ محددة هي رأس السنة العبرية بيَوميه إضافة إلى يوم الغفران، وأنه ليس مطلوباً في الصلوات اليومية أو في طقوس أي عيدٍ آخر، فهو يأتي في معرض طلب مغفرة الرب واستشعار عظمته والإقرار بنعمته، وهو ليس مفروضاً على كل اليهود إنما يؤديه الكاهن الأعظم وطبقة الكهنة في الهيكل حصراً.
ثانياً: أنه طقس ديني مندثر ولم يعد قائماً في الممارسة اليهودية الحالية، ويعود اندثاره وفقاً لهذه المراجع إلى العهد الروماني وهدم الهيكل المزعوم، على اعتبار أن ممارسة السجود كانت من الطقوس المختصة بالهيكل التي اندثرت باندثاره، ولم يتبقّ منها سوى أداؤها الفردي من بعض الحاخامين خلال تأملهم الديني ومحاولتهم لتحقيق معنى هذا الطقس التوراتي المندثر.
ثالثاً: أنه ممنوع على الحجارة لأنها مادة تصنع منها الأوثان، والتوجه لها بالصلاة يتناقض مع الطبيعة التوحيدية لليهودية، إلا في الهيكل باعتباره بيت الرب الذي تحل فيه روحه وفق الرؤية التوراتية الحلولية، ويستدلون على ذلك بتوجيه الرب لنبيه موسى عليه السلام في سفر اللاويين: "لاَ تَصْنَعُوا لَكُمْ أَوْثَانًا، وَلاَ تُقِيمُوا لَكُمْ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا أَوْ نَصَبًا، وَلاَ تَجْعَلُوا فِي أَرْضِكُمْ حَجَرًا مُصَوَّرًا لِتَسْجُدُوا لَهُ. لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ." [7] (اللاويين 26:1).
بناء على ذلك يمكن القول بأن السجود عموماً هو طقس مندثر مختص بالهيكل المزعوم ومقتصرٌ –حين كان قائماً-على ثلاثة أيام في السنة فقط وهو ليس فريضة إنما طقساً مختصاً بطبقة الكهنة ومن يحضر معهم في الهيكل وأداؤه محرّم على الحجارة إلا في الهيكل المزعوم؛ ما يعني في المحصلة أن أداءه بشكله الحالي الجماعي والمفتوح في كل أوقات السنة –كما تحاول جماعات الهيكل فرضه- لم يكن قائماً في أي حقبة تاريخية ولا حتى في الممارسة الدينية التي وصفتها التوراة في الهيكل المزعوم[8]، وأننا اليوم نشهد عملياً استحداثاً لطقسٍ ديني جديد غايته المركزية هو الدلالة على التعامل مع المسجد الأقصى وكأنه الهيكل، بإحياء طقسٍ ديني مختص به، وأدائه على حجارته، وهنا يمسي التكرار والأداء الجماعي دون مناسبة دينية من ضرورات الغاية الجديدة لهذا الطقس المستحدث: توظيفه لتغيير هوية المسجد الأقصى.
ما تمارسه جماعات الهيكل في المسجد الأقصى باختصار ليس عبادة تتوجه أساساً لطلب مغفرة الرب أو رضوانه أو أداء الواجبات التي افترضها، بل هو توظيف للطقوس الدينية كأدوات هيمنة وسيطرة وإحلال، ورغم أنها تدعي أنها تعيد إحياء الطقوس المختصة بالهيكل المزعوم إلا أنها في واقع الأمر تستحدث طقوساً جديدة بشكلٍ يتناسب مع توظيفها كأداة إحلالٍ ديني في المسجد الأقصى المبارك، وبهذا يمكن القول إن "السجود الملحمي" هو طقس ديني معاصر استُحدث خصيصاً لتغيير هوية المسجد الأقصى وبالارتكاز لعناصر توراتية سابقة، تماماً كما استُحدثت أسطورة "إسرائيل" بأسرها، بل لعله ليس من المبالغة القول إنه نسخة الصهيونية المعاصرة من التدين: التدين كأداة استعمار وإبادة!
[1] محاضرة الدكتور محمد الهواري- أستاذ الفكر الديني اليهودي في جامعة عين شمس على اليوتيوب بعنوان: السجود الملحمي في المسجد الأقصى وحوله، الدقيقة 20: https://www.youtube.com/watch?v=bJFjWsJ3x8o
[2] عادة ما تشترك الكلمات العبرية القديمة مع الكلمات العربية في جذورها، وبمحاولة العودة إلى الجذر المقارب في العربية تقلب الهاء الأولى إلى (الـ) التعريف، ويقلب الحرف الثاني الشين إلى سين، وتعاد الفاء المعاصرة إلى أصلها كحرف واو، فتصبح الكلمة: السَتَحوية، ويحتمل أن يكون أصلها كلمة (الاستحواذ)، فهي تحتمل معنى استحواذ الرب على العبد بكمال خضوعه وتسليمه له، وقد استُخدمت هذه الكلمة بهذا المعنى في القرآن لكن باتجاهٍ سلبي نحو الشيطان: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) المجادلة، آية 19.
[3] موسوعة الحاخام إليعازر ميلاميد الإليكترونية، النسخة الإنجليزية: https://ph.yhb.org.il/en/15-07-15/
[4] للنص العربي للإصحاح: https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?book=22&chapter=5
وللنص العبري مترجماً للإنجليزية: https://www.sefaria.org/Psalms.5.8?lang=bi
[5] التفريق العبري بين هذه الطقوس الثلاثة من موسوعة الحاخام إليعازر ميلاميد الإلكترونية: https://ph.yhb.org.il/15-07-14/
والتعريف بها بالنسخة الإنجليزية من الموسوعة ذاتها: https://ph.yhb.org.il/en/15-07-14/
[6] مثلاً: موسوعة الحاخام إليعازر ميلاميد الإلكترونية: https://ph.yhb.org.il/en/15-07-15/،
أو موسوعة حركة (حباد) اليهودية الصهيونية: https://www.chabad.org/library/article_cdo/aid/1508300/jewish/Do-Jews-Kneel-in-Prayer.htm ، أو معهد الحق: https://dinonline.org/2017/09/28/kneeling-and-prostration-laws-and-customs/
[7] النص العربي للإصحاح: https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?book=3&chapter=26
للنص العبري للإصحاح مع ترجمته الإنجليزية: https://www.sefaria.org/Leviticus.26.1?lang=bi&aliyot=0
[8] يصل الدكتور محمد الهواري- أستاذ الفكر الديني اليهودي في جامعة عين شمس إلى النتيجة ذاتها في مناقشته لطقس السجود الملحمي في المسجد الأقصى: https://www.youtube.com/watch?v=bJFjWsJ3x8o