من الأسباط إلى الرحمة دروس تكرار التجربة وفرص تحقيق النّصر
الخميس 21 شباط 2019 - 3:25 م 4975 0 مقالات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدوليةيجهد الاحتلال لتكريس أمر واقع في الأقصى يطال باب الرحمة والمبنى الذي أغلقته سلطات الاحتلال عام 2003، ومن الإجراءات التي فرضها زرع نقطة مراقبة أعلى باب الرحمة، ومنع المرابطين والمصلين من الوجود في هذه المنطقة بالتزامن مع اقتحامات المستوطنين وأدائهم الصلوات التلمودية فيها، ومؤخّرًا إغلاق الطريق المؤدي إلى قاعات باب الرحمة؛ وتأتي هذه الخطوات ضمن محاولة الاحتلال السيطرة على المنطقة الشرقية من المسجد في إطار مخطط التقسيم المكاني الذي تصاعدت محاولات فرضه منذ ما بعد اقتحام شارون للأقصى عام 2000.
رفض المقدسيون هذه الاعتداءات، لا سيما تركيب الاحتلال القفل والسلاسل الحديدة على البوابة المؤدية إلى مبنى باب الرحمة، وفرضوا على مدى الأيام الماضية مشهدًا يعيد إلى الأذهان تجربة هبة باب الأسباط، التي استطاع خلالها المقدسيون بإرادتهم الصلبة إجبار الاحتلال على التراجع عن إجراءاته التي تكللت بنصب بوابات تفتيش إلكترونية عند أبواب الأقصى. والمعركة التي نشهدها اليوم لا تقتصر على كسر قفل وضعه الاحتلال في الطريق إلى القاعة، بل تتعدّى ذلك إلى العمل على إرجاع القاعة لوظيفتها الأصيلة، كونها جزءًا لا يتجزأ من مصليات المسجد الأقصى. ونظرًا للتشابه بين التطورات الأخيرة وما جرى في "معركة البوابات"، نورد في هذا المقال أبرز العوامل التي ساعدت على تحقيق النصر في شهر تموز/يوليو 2017، ونسلّط الضوء على إمكانية تكرار التجربة في ظل التطورات الحاليّة.
شكلت هبة "باب الأسباط" محطة فارقة في مواجهة الاحتلال وخططه التهويدية في القدس المحتلة، فبعيد العملية التي نفذها الشبان الثلاثة من آل الجبارين عند باب الأسباط في 14/7/2017، وأدت إلى مقتل اثنين من عناصر الاحتلال وجرح ثالث، استغلّ الاحتلال هذا الخرق النوعي لمنظومته الأمنية ليفرض المزيد من السيطرة على الأقصى، عبر فرض قيودٍ جديدة يتحكم عبرها بأبواب المسجد. فمنعت سلطات الاحتلال منع إقامة صلاة الجمعة في الأقصى، وأعلنت المسجد منطقة عسكرية، واقتحمته وأخرجت المصلين منه بالقوة، واعتقلت 58 من حراس الأقصى. واستمر إغلاق المسجد ثلاثة أيام متتالية ما بين 14-16/7/2017، ولم تسمح قوات الاحتلال لمسؤولي دائرة الأوقاف والقيادات الإسلامية بدخول الأقصى، واستباحته واستباحته في أثناء فترة الإغلاق هذه، حيث اقتحمت وفتشت جميع مكاتب الأوقاف والمصليات، عابثةً بمحتوياتها ومحطمةً العديد من الأبواب والأقفال، ومدنسةً مرافق الأقصى ومصلياته.
وفي ظل إغلاق الأقصى بشكلٍ كامل أمام المصلين، وقرار الاحتلال في 16/7/2017، القاضي بتركيب بوابات إلكترونيّة أمام أبواب المسجد، بدأ الحراك الفلسطيني بالتصاعد، حيث حاول عشرات الشبان في اليوم نفسه الدخول للأقصى مقتحمين الحواجز الحديديّة التي نصبتها قوات الاحتلال في أزقة البلدة القديمة. رفض المقدسيون إجراءات الاحتلال المستحدثة، واعتصموا أمام أبواب المسجد رافضين الدخول للأقصى عبر البوابات الإلكترونية، وهي ردة فعلٍ شعبية ومباشرة شارك فيها الفلسطينيون من القدس المحتلة وخارجها، ما جدد نمطًا فاعلًا من المقاومة المجتمعية العامة.
وأمام صمود المقدسيين وإصرارهم على عدم الإذعان، مارست قوات الاحتلال اعتداءات مختلفة وقمعًا شديدًا بحقهم، وشهد محيط باب الأسباط وأبواب الأقصى الأخرى مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال، سقط على إثرها عشرات الجرحى. وفي 21/7/2017 منعت قوات الاحتلال الرجال دون الخمسين عامًا من دخول البلدة القديمة، وأجبرت قواته موظفي الأوقاف وحراس الأقصى على إخلاء محيط باب المجلس، وأبعدت 40 شابًا كانوا يعتصمون قرب باب الأسباط، وأصيب خلال هذا اليوم أكثر من 70 فلسطينيًا، جراء المواجهات مع قوات الاحتلال في محيط المسجد الأقصى، وفي هذا اليوم رفضت سلطات الاحتلال إزالة البوابات الإلكترونية من مداخل الأقصى.
وفي سياق رد الفعل الفلسطيني الجماهيري، شكل موقف قيادات القدس الرافض لدخول الأقصى عبر البوابات الإلكترونية بداية تدحرج الأحداث أمام أبواب المسجد وفي مجمل المناطق المحتلة، واستمرت الاعتصامات والفعاليات حتى تراجع الاحتلال عن جميع الإجراءات التي فرضها، وفكّك البوابات والجسور الحديديّة التي حملت كاميرات مراقبة متطورة في 27/7/2017، ودخول آلاف الفلسطينيين للأقصى في مشهد انتصار مهيب.
وتتجلى في هذا السياق مجموعة من المعطيات التي حققت الانتصار الفلسطيني، في معركة لم يملك الفلسطينيون فيها إلا سلاحي الصمود والاعتصام الجماهيري الحاشد، وهما عاملان أساسيان ساهما في زعزعة الإرادة الإسرائيليّة، فمع بداية الأزمة صرّح قائد شرطة الاحتلال في القدس المحتلة يورام هاليفي في 18/7/2017 بأن البوابات الإلكترونية التي تم وضعها ستبقى مكانها، ولكن شرطة الاحتلال أُجبرت في نهاية المطاف على إزالتها بفعل الانتفاضة الجماهيرية الحاشدة. وفي سياق الانتصار المقدسي خلال هذه الهبة، يمكننا تسجيل أبرز العوامل التي ساهمت في صناعة هذا الانتصار، وهي:
الفعل الجماهيري الحاشد على أبواب الأقصى، الذي تبلور نتيجة لتلاحم القيادة الشعبية والدينية في القدس مع الجماهير الفلسطينية، وقدرة الجماهير الفلسطينية على حسم التردد الذي اعترى بعض المواقف مع بداية إغلاق الأقصى، من خلال الرفض الكامل للاعتداءات الإسرائيليّة والإجراءات الجديدة، ورفض الدخول إلى الأقصى بوجود أي إجراء على أبواب المسجد.
سرعة الاستجابة الفلسطينية في مواجهة قرارات الاحتلال، فلم يكن الرفض الفلسطينيّ سوى قرارٍ ذاتي، يدرك أن القبول بإجراءات الاحتلال سيجر إلى تنازلات كثيرة لا يمكن التنبؤ بها أو بمفاعيلها في سيطرة الاحتلال على المسجد.
تحويل الاعتصامات من الاحتجاج على قرارات الاحتلال إلى فعل جماهيري منظم، يمتزج بالهتاف والخطابات، مع الصمود المتواصل، وقد حاول الاحتلال تغيير هذه الوجهة من خلال التعامل القاسي معها، وإطلاق الرصاص على المتظاهرين، ولكنها خطوات لم تثنِ الفلسطينيين عن مواصلة احتجاجاتهم.
التكاتف الفلسطيني العام بين مختلف الشرائح الفلسطينية، وسجلت أمام باب الأسباط خاصة مشاركة فاعلة لجميع مناطق القدس، حيث دعت العائلات والعشائر المقدسية إلى الاعتصام أمام باب الأسباط، وأعلنت أنها ستتبرأ من أي فردٍ من العائلة يدخل الأقصى عبر البوابات الإلكترونية.
تحويل أوقات الصلاة إلى محطات تجدد للحراك، فلم يكن بمقدور الاحتلال مواصلة المواجهة لخمس مرات في اليوم، واتخاذ الصلاة طابعًا ثوريًا، إضافة إلى كونها ركنًا تعبديًا، وشكلت صلاتا المغرب والعشاء فرصة للتجمهر بأكبر حشود ممكنة، وإطالة وقتها من خلال الدعاء وقطع الطريق على أي إمداد لقوات الاحتلال، وهي صورة كانت ترعب قوات الاحتلال المتمركزة في وجه هذه الحشود الهائلة، ومحاولتها إنهاء هذه الصلوات بأسرع وقتٍ ممكن بالتعامل الوحشي وإطلاق الرصاص وقنابل الغاز. وقد سجلت وسائل الإعلام صورًا مميزة لوقوف المسيحيين في القدس في صفوف المصلين خلال أداء الصلاة، وأطلق متابعون صفة "صلاة النكاية" في وجه الاحتلال وقراراته على هذه الصلوات الجامعة.
تصاعد أعمال المقاومة في مجمل المناطق المحتلة، فلم يكن الحراك في القدس منفردًا أو معزولًا عن باقي المناطق المحتلة، حيث شهدت مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلة اشتباكاتٍ ومواجهات مع قوات الاحتلال، وخاصة مدينة القدس المحتلة التي شهدت مواجهات يوميّة، وبلغ عدد نقاط المواجهة التي شهدتها مدينة القدس خلال شهر تموز/يوليو 2017 نحو 199 نقطة مواجهة مع الاحتلال، وأسفرت عن إصابة 41 من جنود الاحتلال بجراح مختلفة.
وفي المحصلة أدى تضافر هذه المعطيات وغيرها إلى تحقيق انتصارٍ نوعيّ في مواجهة آلة الاحتلال التهويديّة والقمعيّة، وإثبات أن الاحتلال طرفٌ خاسر في أي مواجهة مباشرة والتحام شعبيّ، إذ تستمد الجماهير قوتها من قدرة الفلسطيني على مواصلة التضحية وإرادة الصمود التي تستمر في أحلك الظروف. واستطاع المقدسيون إعادة إحياء حالة الرباط بشكلٍ أكبر من أي وقتٍ مضى، فمنذ حظر الاحتلال المرابطين والمرابطات في أيلول/سبتمبر 2015، تراجعت حالة الرباط وتضاءل دورها أيضًا، ولكن الحراك المقدسي في هبة باب الأسباط أعاد للرباط ألقه عبر انخراط مئات الشبان من القدس والمناطق الأخرى، علاوة على الآلاف من سكان البلدة القديمة ومن خارجها. وهو ما حاول شبان القدس تكراره في الذكرى الأولى لهبة باب الأسباط، فقامت قوات الاحتلال باقتحام الأقصى ومنع أي تحرك ممكن، لتقطع الطريق على أي محاولة للبناء على هذا الانتصار، في تأكيد بأن العمل الجماهيري هو الأكثر إيلامًا والأعمق أثرًا.
نطرح الانتصار في هبة باب الأسباط في ظروف مشابهة يحاول خلالها الاحتلال فرض واقع جديد على المسجد، مستهدفًا منطقة باب الرحمة، في تصعيد لمخطط التقسيم المكاني للمسجد، ما يؤكّد أهمية المواجهة الشعبية الشاملة مع الاحتلال، وبأن سلاحي الإرادة الصلبة للفلسطينيين وصمودهم الراسخ هما الأداة الأولى لثني الاحتلال عن أي مشروع تهويديّ يستهدف الحق الإسلامي الراسخ في المسجد الأقصى، وهي محاولات يتجرأ الاحتلال على القيام بها بسبب التخاذل العربي، وارتماء أطياف عربية كثيرة في دائرة الاحتلال، بشكلٍ علني ومتسارع، فاستلهام دروس دخول المقدسيين للمسجد في هبة باب الأسباط يمكنها أن تكون نواة هبّة جديدة قادمة.