حال القدس 2019
الثلاثاء 31 آذار 2020 - 7:43 م 13348 843 حال القدس السنوي |
مقدمة
واصَلَ قطارُ التهويد مسيره في القدس، ولكنه لم يكن على الوتيرة نفسها التي عرفَتها المدينةُ في الأعوام السابقة. ولا يعني ذلك تقليلًا من خطورة ما أُنجِز وما هو قيد التخطيط والإنجاز من مشاريع تهويدية في القدس، بل توصيف للواقع انطلاقًا من رحم المعلومات والأرقام والإحصائيات التي رصدناها في تقريرنا السنويّ "حال القدس 2019". قارئ هذا التقرير سيشعر بمفارقة واضحة بين بطء قطار التهويد في القدس، وما توافر للاحتلال من دعمٍ أمريكيٍّ غير مسبوق، وبيئة عربية متهالكة متورطة بوصمة التطبيع، ومجتمع إسرائيليّ يجنح أكثر فأكثر نحو يمين حاضن للاستيطان، وابتلاع الأرض الفلسطينية، وإنكار وجود الفلسطينيين بوصفهم شعبًا لهم تاريخ وحقوق مقدّسة، ونخبة سياسية سحقَتْ مصطلحاتِ "الوسط" و"اليسار"، ولم تعد تفقه القراءة إلا في قاموس اليمين المتشدد والمتطرف، ومنظمات دينية وجمعيات استيطانية مستعدة لإشعال حربٍ في سبيل فرض "السيادة الإسرائيلية" على القدس، وقلبها المسجد الأقصى، كما صرّح رموزها في غير مناسبة، وميزانيات هائلة تكبر ميزانيات التهويد والاستيطان في السنوات السابقة بأضعاف.
نعم هي مفارقة حقيقية، فكلّ هذا الذي توافر من دعم، وإمكانيات، واحتضان للاحتلال لم ينعكس في القدس على شكل مشاريع تهويدية تفوق ما رصدناه طوال السنوات الماضية، على الأقل منذ عام 2005 حين شرعنا بإصدار تقرير "عين على القدس" ثم تقرير "عين على الأقصى". هل ثمّة علاقة بين تعثّر المستوى السياسيّ في دولة الاحتلال، وبطء سير التهويد؟ هل انشغلت الطبقة السياسية الإسرائيلية بانتخاباتها التي دعت إلى تنظيمها ثلاث مرات بين نيسان/أبريل 2019 وآذار/مارس 2020 بعد فشل الأحزاب السياسية في تشكيل حكومة إسرائيلية؟ لا أظنّ أنّ الجواب "نعم" أو "لا" على إطلاقه؛ فقد تبيّن معنا عبر تراكم العمل في رصد تطور مشاريع التهويد والمواقف الإسرائيلية المتعلقة بالقدس أنّ ماكينة التهويد تستطيع أنْ تسير وحدها إلى حدّ بعيد من دون وقود الدعم الحكوميّ المباشر؛ لأنّ من يتولّى الكثير من مهام التهويد جمعيات استيطانية كـ "إلعاد" و"عطيرت كوهنيم"، ومن يتولى التحشيد ضدّ الأقصى "منظمات المعبد"، وهي جهات ليست رسمية، ولا تنتظر دعم الحكومة الإسرائيلية، بل إنّها نجحت في فرض أجنداتها في كثير من الأحيان على الحكومات الإسرائيلية بعدما قدّمت لرموزها الدعم الانتخابي، وتسويق الإنجاز، وبعضها كـ"إلعاد" يقدّم الدعم الماليّ لمؤسسات حكومية، لا سيما "سلطة الآثار الإسرائلية"، وصولًا إلى شراء ذمم بعض علماء الآثار الإسرائيليين بالمال. ولكنْ، في المقابل لا يمكن إغفال الانشغال بالانتخابات المعادة ثلاث مرات، وغياب حكومة ائتلاف قادرة على حمل الدعم الأمريكيّ الثقيل، وترجمته على الأرض مشاريع ضخمة وقرارات جريئة بحاجة إلى ائتلاف حكوميّ عريض يحميها ويتابع تنفيذها.
لقد كانت هبة باب الرحمة في شباط/فبراير 2019 ضربة موجعة للاحتلال الذي كان يتربّص بالأقصى تقسيمًا يتيح له السيطرة الكاملة على محيط منطقة باب الرحمة، في المنطقة الشرقية الشمالية من الأقصى؛ فجاءه الردّ من الخاصرة التي ظنّ الاحتلال أنها الأضعف في الأقصى، أي منطقة باب الرحمة، بسبب سياساته المتواصلة لاستهدافها، منذ ثلاث سنوات على وجه التركيز، إذ عمل على تفريغها باستمرار من المصلين؛ ولكنّ الهبة التي فاجأته هدمت أحلام التقسيم المكانيّ، ووضعت المقدسيين في موقع متقدم في ميدان المعركة، فتحوّل المصلى المغلق منذ عام 2003 إلى مصلى رغم رئيس الحكومة نتنياهو، ووزير الأمن الداخلي غلعاد إردان، ومسؤولي "منظمات المعبد"، ومحاكم الاحتلال، بل أصبح نقطة رباط ومواجهة مع الاحتلال؛ في الوقت الذي كان يسعى الاحتلال إلى محو صورة هذه المنطقة من خريطة الأقصى، عبر منع المصلين من الوجود فيها وتأهيلها، تمهيدًا إلى جعلها مكانًا لصلاة اليهود، يتضمن كنيسًا يهوديًّا، بعد أن يطمئنّ إلى أنّها دخلت دائرة النسيان واللامبالاة في عقول المقدسيين وقلوبهم. ولم يكن انتصار هبة باب الرحمة مجرّد إنجاز تمثّل بفتح المصلى، بل هو هزيمة بكلّ معنى الكلمة للاحتلال في إحدى أهم جولات معركة السيادة التي لا يطيق الاحتلال إلا أن تكون مطلقة على كلّ القدس، ولذلك هو انتصار بحجم القدس.
ولم تكن هبة باب الرحمة يتيمة على امتداد فلسطين، بل آزرتها مسيرات العودة في قطاع غزة، والعمليات التي لم تتوقف في الضفة الغربية والقدس، والمواجهات التي استنزفت الاحتلال وأقلقت أمنه، تلك المواجهات التي أصبحت علامة مُسجّلة لبعض البلدات المقدسية، حتى إذا ما ذُكرت هذه الكلمة، تبادَرَ إلى الذهن اسم بعض البلدات، ومنها العيسوية التي تُوِّجت عام 2019 قلعةً من قلاع الصمود والتصدي والمواجهة، بل أصبحت مدرسة في المقاومة الشعبية يجدر بأهل المقاومة الاستفادة من تجربتها أينما كانوا سواء في القدس أو غيرها.
أما التطبيع الذي استمرّ بأشكاله المختلفة في عام 2019، فلا يبدو أنّ له سوقًا وسط شعوب الأمة ومكوّناتها الأهلية التي تلاقت تحت عنوان "متّحدون ضدّ صفقة القرن"، وبقيت ورشة البحرين الاقتصادية التطبيعية خطوة معزولة ضمن سلسلة مغامرات كوشنير الذي يريد من الدول العربية الغنيّة السائرة في ركب التطبيع أن تدفع فاتورة "صفقة القرن" مقابل حمايتها من أوهام الأعداء الذين تصطنعهم أمريكا للأمة، والمساعدة في التشبيك والتنسيق والتحالف بين هذه الدول، ودولة الاحتلال الإسرائيليّ بوصفها وكيل أمريكا في المنطقة؛ لحماية هذه الدول من "الإرهاب" الذي أصبحت المقاومة الفلسطينية أحد روافده في الدين السياسيّ الجديد لهؤلاء.
وعلى أيّ حالٍ، فإنّ نتائج الانتخابات الأمريكية في تشرين ثانٍ/نوفمبر2020، وما سيسفر عنه الاشتباك السياسي الداخليّ الإسرائيليّ، عاملان مهمّان في تحديد مصير "صفقة القرن" التي قد تطير بسقوط دُعاتها، ولا يعني ذلك الانتظار والوقوف موقف المتفرج، بل المبادرة في كل الاتجاهات، وتكثيف الجهود لمواجهة كل التحديات، وإعطاء الأولوية للاستثمار بالطاقات الكامنة في شعوب الأمة عمومًا، والشعب الفلسطيني على وجه الخصوص. وأكثر من ذلك؛ فإنّ ما يعصف بالعالم من تطورات وأحداث اقتصادية، وصحية، وسياسية، وأمنية، وعسكرية، وتكنولوجية، يشكل فرصة لأصحاب الحق في القدس لدراسة المشهد المحلي والإقليمي والدوليّ على كل الصعد، والسعي بجرأة إلى تبني تحالفات، ومبادرات، وأدوات جديدة تعزز موقعهم في المعركة مع الاحتلال الإسرائيليّ وداعميه.
تقرير حال القدس السنويّ لعام 2019 يقدّم أهمّ المعطيات المتعلقة بتهويد القدس، ويتتبع المواقف منها، ويرصد تطور المواجهة مع الاحتلال في أكثر من ساحة في فلسطين، ويستشرف مآلات الأمور، ويضع التوصيات المناسبة بين يدَي المهتمين بشأن القدس من مسؤولين وعاملين لها، وهو مادة غنية لمن يريد أن يبني استراتيجية لإفشال مخططات الاحتلال، ودعم صمود المقدسيين.
هشام يعقوب
رئيس قسم الأبحاث والمعلومات