"سيفُ القدس" وبعضٌ من دلالاتها
الثلاثاء 10 أيار 2022 - 3:39 م 1489 0 مقالات |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدوليةلم تكن معركة "سيف القدس" مشابهة لجولات أخرى من المواجهات بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال في أعوام سابقة، بل جاءت لتشكّل اختبارًا للمقاومة من زوايا متعدّدة وعلى أصعدة مختلفة. وتميّزت هذه الجولة بجملة من الأمور، أوّلها أنّ المقاومة كانت صاحبة المبادرة فيها وهي اختارت توقيتها، وأنّ سبب اندلاعها لم يكن مرتبطًا بتطوّر الأمور في غزة، مثلما كان الحال في الاعتداءات السابقة على القطاع، بل بالقدس والأقصى، وأنّها شهدت ربطًا بين المكوّنات الجغرافية لأماكن انتشار الفلسطينيين، لا سيّما موجة التظاهرات التي قام بها الفلسطينيون في مدن الداخل المحتل عام 1948، والإضراب العام الذي شارك فيه كلّ الفلسطينيين في 2021/5/18، بما عزز القلق لدى الاحتلال والخوف من فقدان السيطرة الأمنية في الداخل خصوصًا . كذلك، فقد كشفت الجولة عجز الاحتلال عن الحسم العسكري في وجه فصائل المقاومة في غزة، التي تعدّ ذات قدرات متواضعة في ظلّ سنوات الحصار والحروب التي كان مسؤولو الاحتلال يقولون عند انتهائها إنّهم أعادوا المقاومة سنوات إلى الوراء وعطّلوا قدراتها الصاروخية.
من حيث التوقيت، جاءت معركة "سيف القدس" في مرحلة أعقبت التقارب الرسمي العلني بين عدد من الدول العربية ودولة الاحتلال توّجته اتفاقيات أبراهام التطبيعيّة التي رعتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وانضمّت إليها أربع دول عربية هي كلّ من الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والسودان، والمغرب، بعد أعوام من تطبيع كلّ من مصر والأردن، في ظلّ كلام عن دول أخرى تتحضّر لتلحق بقطار التّطبيع .
كذلك، جرت المعركة في أثناء الأشهر الستة الأولى من تسلّم الرئيس الأمريكي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة، وانشغال إدارته بالملف النووي الإيراني كأولوية في السياسة الخارجية بدت أكثر أهمية بالنسبة إلى بايدن من القضية الفلسطينية.
كانت "سيف القدس" اختبارًا ليس للمقاومة وقدراتها وجهوزيّتها وحسب، بل اختبارًا لمواقف الدول المختلفة حيال المقاومة والعدوان على غزة أيضًا، لا سيّما مواقف الدول المطبّعة وأثر تطبيع العلاقات في استمرار العدوان أو وقفه، بل وأثر العدوان في مستقبل التطبيع، إضافة إلى موقف الإدارة الأمريكية التي وجدت نفسها في ميدان لإثبات التزامها بأمن دولة الاحتلال والتحالف معها.
وقد حققت المقاومة في هذه المعركة إنجازات مهمّة فأثبتت قوتها وشعبيّتها والقدرة على المبادرة إلى ضرب الاحتلال، واختيار توقيت المعركة، وتنامي خبرتها التقنية وقدرتها العسكرية، كما تشير ورقة بحثية للدكتور وليد عيد الحي بعنوان "الآفاق المستقبلية لمعركة سيف القدس".
المقاومة دورها كمدافع عن القدس والأقصى لتُخرج إلى دائرة الفعل ما التزمت به في خطابها لسنوات عبر تأكيدها أنّ القدس والأقصى خطّ أحمر. كذلك، أعطت المعركة دفعة إيجابية لقوى المقاومة وأكّدت مركزية القضية الفلسطينية على مستوى أيّ مقاربة للمنطقة، لا يمكن أن يؤدّي تجاهلها وإهمالها إلى حلّها تلقائيًا أو تلاشيها.
وحازت المقاومة التفافًا شعبيًا كبيرًا في الداخل والخارج في ظلّ حسن إدارتها المعركة، وقدرتها على الضرب في العمق الإسرائيلي، وكانت فاتحة إنجازاتها مع تمكّنها من إجبار الاحتلال، مع الرشقات الصاروخية الأولى على القدس، على إلغاء "مسيرة الأعلام" التهويدية التي ظلّ الاحتلال متمسكًا بها في محاولة للتعويض عن عدم قدرته على تأمين اقتحام المستوطنين المسجد الأقصى في اليوم ذاته، الذي وافق 28 رمضان، لمناسبة "يوم القدس" أو احتلال كامل القدس، بعدما تصدّى له المرابطون في المسجد على مدى اليوم.
ومن دون إغفال الموقف الشعبي خارج فلسطين كما عكسته التظاهرات التي شهدتها دول العالم على اختلافها، فإنّ معركة "سيف القدس" عزّزت الموقف الشعبي الفلسطيني الإيجابي حيال المقاومة. فوفق استطلاع للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة ما بين 9-12 حزيران/يونيو 2021، أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسيّة والمسحيّة، أظهرت نتائج الربع الثاني من عام 2021 تغيرًا جوهريًا في موقف الرأي العام الفلسطيني تجاه السلطة الفلسطينية وقيادتها، وتجاه حركة حماس، وتجاه العلاقة مع دولة الاحتلال. وأظهرت النتائج أنّ 77% من الفلسطينيين تعتقد أنّ حركة حماس انتصرت في المواجهات مع "إسرائيل" فيما قال 72% منهم إنّ إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية جاء نصرة للأقصى وللشيخ جراح.
وأظهرت النتائج استياء واضحًا من أداء السلطة الفلسطينية وحكومتها وقيادتها وحركة فتح في أثناء المواجهات والحرب. وللخروج من الأوضاع الراهنة، قالت نسبة من 27% إنها تفضل التوصل إلى اتفاق سلام مع دولة الاحتلال، فيما قالت نسبة من 39% إنها تفضل شنّ كفاح مسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، فيما كانت نسبة من 36% قالت إنّها تفضل التوصل إلى اتفاق سلام ونسبة من 26% قالت إنها تفضّل شنّ كفاح مسلّح في استطلاع أجراه المركز قبل ثلاثة أشهر.
الإنجاز الميداني للمقاومة والالتفاف الشعبي حولها كان مصدر قلق كبير على المستوى الرسمي الإقليمي والدولي، نظرًا إلى ما يعنيه ذلك من تأكيد لإخفاق مسار التسوية السلمية وفشل مسار التطبيع، وإمكانية استفادة "محور المقاومة" من الإنجاز، وتصاعد الخطر بالنسبة إلى دولة الاحتلال. لذلك، يبدو أنّ الدول المتضرّرة من الإنجاز الذي حقّقته المقاومة، حتى تلك التي شجبت العدوان، ستكون معنيّة بتحجيم المقاومة وتقليص أهمية إنجازها، وإعادة إحياء السلطة ومعها مسار المفاوضات، والعمل على عزل قوى المقاومة وإضعاف مشروعها على مستوى فلسطين والمنطقة.
وفي ما يتعلق بالإدارة الأمريكية، فقد وضع بايدن ضمن أولوياته في التعاطي مع تداعيات "سيف القدس" تحصينَ أمن دولة الاحتلال وإعادة ترميم قدرتها "الدفاعية"، وعزل حركة "حماس" ومحاصرتها، وإعادة إحياء مسار المفاوضات. ففي مؤتمر صحفي في 21/5/2021، قال بايدن في إجابة على سؤال حول الرسالة التي يوجهها إلى الديمقراطيين الذين يدعونه إلى مواجهة "إسرائيل" ومن ينتقدون صفقة الأسلحة التي عقدت مؤخرًا مع دولة الاحتلال إنّه لن يغير من التزامه بأمن "إسرائيل"، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أنّ الحاجة إلى حلّ الدولتين لا تزال قائمة، مع ما يعنيه هذا الأمر من حاجة إلى تعزيز دور السلطة الفلسطينية وإيجاد سبيل للعودة إلى مسار المفاوضات.
وقال بيان صادر عن بايدن في 24/5/2021 إنّ تكليفه وزير الخارجية بزيارة إلى المنطقة جاء لتنسيق الجهود الدولية وللتأكد من وصول المساعدات إلى غزة بشكل يستفيد منه الشعب الفلسطيني وليس حركة حماس. كذلك، أكّد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في 2021/6/18، التزام البنتاغون بتخصيص الميزانيات اللازمة لإعادة مخزون صواريخ القبة الحديدية الإسرائيلية إلى ما كان عليه قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في أيار/مايو 2021، وأنّه سيرسل طلبًا مفصلاً للكونغرس حول المبلغ المطلوب، وذلك بناء على نقاش مسبق مع وزير الجيش في حكومة الاحتلال بني غانتس الذي التقى أوستن لهذه الغاية في 2021/6/3، وقد أكّد الأخير التزام الرئيس بايدن بتعزيز منظومة القبّة الحديدية.
على مستوى التطبيع، أكّدت معركة "سيف القدس" وتطوراتها أنّ التطبيع لم يحصّن دولة الاحتلال ولم يحقّق تطلعاتها إلى إنهاء القضية الفلسطينية، وفي هذا السياق جاء كلام مفوّض الأمن والسياسات الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي أشار إلى أنّ "تطبيع عدد من الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل أعطى انطباعًا بأنّ القضية الفلسطينية انتهت"، معلنًا عن ضرورة العودة إلى مفاوضات حقيقية من أجل حلّ دائم عبر تسوية سياسية تقوم على حلّ الدولتين.
وعليه، فإنّ ملامح المواقف والجهود الدولية والإقليمية على مستوى الأطراف التي تساند دولة الاحتلال وتدور في فلك الموقف الأمريكي عمومًا، تشير إلى أنّ العمل جارٍ لمنع المقاومة من جني أيّ مكاسب سياسية بعد معركة "سيف القدس" ومحاصرة هذا المسار ومنعه من تعزيز قوّته وقدراته، في مقابل محاولات تعويم السلطة الفلسطينية عبر الدّفع باتجاه إعادة إحياء مسار المفاوضات الذي لا تزال السلطة متمسّكة به كمسار يحفظ حياتها واستمرارها، في ظلّ تنافرها التام مع مسار المقاومة وعجزها عن الاستفادة السّياسية من أوراق القوة التي يحقّقها هذا المسار.
** هذا المقال مستلّ من ورقة بحثية بعنوان "معركة سيف القدس: المواقف والتداعيات" منشورة ضمن "المشهد الفلسطيني" الصادر عن "مركز باحث للدراسات الاستراتيجية والفلسطينية" في 2021/8/25.