أحزان القدس الثقافيّة

تاريخ الإضافة الأحد 30 أيلول 2007 - 4:07 م    عدد الزيارات 5679    التعليقات 0     القسم

        



 عظام رابعة العدوية تموت كل يوم

زرت القدس أكثر من مرة متسلّلاً طبعاً، من وراء الجبال ومن تحت الجسور، بعيداً عن أعين مغتصبيها.
لم يكنْ لمعظم زياراتي سبب سوى الحنين إلى مدينة تسكنني حد الجنون والضياع، ليست المسألة مسـألة ذكريات شخصية بالطبع، فصحيح أنّي عشت فيها ألذّ أيام حياتي, فاليد الناعمة الأولى التي أمسكتها في حياتي كانت هناك بجانب مقبرةٍ والشهقة العاطفية الأولى كانت هناك بجانب كنيسة، هل يجوز الحديث عن أشواق الجسد ومغامراته في مضمار الانشغال بأحزان المدينة الوطنية والثقافية؟؟ بالتأكيد سيشعر البعض بالحنق والاستياء لأني لم أوفر الفضفضات الحسية حتى في مقالٍ رصينٍ يتحدث عن الثقافة والعروبة والوجع الاحتلالي، بنظري الأحزان والمباهج الجسدية لا تنفصل عن مباهج وأحزان الثقافية والوطنية لأنها تشكّل معاً كتلة وجودية متماسكة وحية ودالة، توصل إلى حقيقة الحياة في اسطع تنوعها واختلاطها وحيويتها.
القدس ليست هي التجارب العاطفية الشخصية، فقط، إنها أكبر من ذلك بكثير، إنها تاريخ أمّة وعنوان لكرامتها، وجغرافيا انتصارات ونكسات ومنعطفات تاريخية هائلة وأرضٌ لنهضة ومشعلٌ للأديان وطريقٌ لمستقبل ضبابيّ لم ينقشع يوماً ما، القدس هي تاريخنا المرتبك ومفتاحنا الذي أضعناه، إنها بوابة هزّات بلادنا التاريخية والثقافية، بدايات نهضتنا ووطن رموزنا التنويريّين أمثال خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي ونخلة زريق وعادل جبر وأكرم زعيتر وغيرهم، ثمة سؤال يحيرني من سنين، لماذا لا يمدّ العرب مؤسسات وأفراداً وأنظمة يدَهمْ لمساعدة القدس ثقافياً، لنقُلْ إنّنا يئسنا من دعمهم السياسي لأسبابٍ كثيرة ولكن ما الذي يمنع إنقاذهم للحياة الثقافية المقدسية التي تعاني الشلل والإحباط والاختناق؟؟ هل تصدّقون أنّه لا جرائد ثقافية في القدس حتّى الآن؟
مؤخّراً وقبل أيّام فقط صدر العدد الأول من جريدة شهرية متميزة، اسمها: رؤى شبابية يحررها الشاعر والمثقف المقدسي النشيط نجوان درويش.. رؤى شبابية في عددها الأول تقترح طُرقاً أخرى لرؤية المشهد الثقافي الفلسطيني، طُرُقاً مختلفة قوامها الصراحة والجرأة وعمق الالتقاط وذكاء الربط، يليق تماماً بالقدس أنْ تحتضن هذه التجربة الصحافية الثقافية الجديدة، كما يليق بنجوان أنْ يكون من سكان هذه المدينة المتربصة بكلّ قلوب داخليها، لتخطفها بشراسة القطط الناعمة وتذهب بها إلى أبعد من الشعر والحرية والحب، والأحاسيس البشرية المعتادة، قبل أسابيع وبعد منتصف الليل هاتفتُ نجوان فإذا به يجلس في جلسة صاخبة وراقصة، فأحسست بالراحة الكبرى، إلهي، هناك عرب يسهرون حتّى منتصف الليل في القدس ويضحكون بصوتٍ عال، لكن فرحتي لم تدمْ، فقد عرفت فيما بعد أنّ السهرة كانت في القدس الغربية، القدس مدينة ميتة يا زياد، لا أحد يسهر فيها، قال لي نجوان بصوتٍ حزين نفى كل الصخب الذي حوله، هل تصدّقون أنّ مسرح الحكواتي في القدس يعاني من إفلاسٍ حقيقي يهدّد وجوده ولا حياة لمن تنادي؟ هل تعرفون أنّ مسرح القصبة الشهير قد هاجر من القدس قبل عدة سنوات إلى رام الله تحت ضغط الإفلاس المادي والحصار؟؟
قبل أيام سمعنا عن بشارة رائعة بلّلت بعض جفاف حلقنا: وهي أنّ مؤسسة يبوس الثقافية الفلسطينية حصلت على دعمٍ خليجيّ وأوروبي لترميم سينما القدس الشهيرة والقديمة التي توقفت عروضها عام 87 بسبب المشاكل السياسية، لكن ذلك لا يكفي، إننا بحاجةٍ إلى ثورة ثقافية في القدس، انفجار ثقافي إنْ صحّ التعبير يعقب هذا العطش الكبير، صحيح أنّ الاحتلال له دور كبير في منعِ وإحباط المشاريع الثقافية في هذه المدينة العظيمة، لكن انقسامنا السياسي نحن الفلسطينيين وعجْزنا عن إدارة أزماتنا وتغليبنا الهم الفئوي على الهم الوطني وقلة فهمنا واحترامنا للدور الثقافي في حياة الشعوب، له دور كبير أيضاً في عرقلة وتفريغ مدينتنا من حياتها الثقافية الطبيعية، فللأسف تحولت مؤسسات القدس الثقافية إلى دكاكين فصائلية لا همّ لها سوى ترويج ثقافتها الحزبية البعيدة عن هموم المدينة وحاجتها... أمّا عن نية جامعة الدول العربية جعل القدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009 فهذا يشبه نكتة سمجة ومؤلمة، إنها محاولة استعراضية شكلية، فهذه الذهنية العربية الرسمية الشعاراتية لا تفهم حاجات القدس الحقيقية ولا تخدم فكرة الثقافة ولا تعرف أصلاً أنّ القدس محتلة ومحاصرة وأنها بحاجةٍ لفك الحصار عنها أولاً، هل يعرف هؤلاء أنّه محرّم على سكان غزة والضفة دخول القدس؟ كيف ستنجح فعاليات الثقافة في المدينة إذا كان ممنوعاً علينا دخول القدس؟ ومن الذي سيشاهد هذه الفعاليات ويشارك فيها؟
وهل يظنّ هؤلاء أنّ "إسرائيل" ستسمح للأدباء والمثقفين العرب بالدخول للمشاركة في الفعاليات؟، وإذا كانت تتجرأ على منع المصلين من الصلاة فكيف لا تفعل ذلك مع الأدباء؟ من الذي سيمنعها؟ هل ستخاف من سبع السباع وزير ثقافتنا العظيم؟!، لا يمكن لناضجٍ وعاقلٍ أنْ يخفى عليه أنّ هذه المحاولة الرسمية العربية ما هي إلا لعبة سياسية دعـائية مفرّغة من مضمونها ومن نياتها الحسنة، وأنّ هذا الشعار سيكفّ عن الوجود بعد العام المخصص له، إنّ الحلّ هو العمل على دعم المؤسسات الفلسطينية المقدسية غير الحزبية أو إقامة مؤسسات جديدة هدفها بالفعل خدمة المدينة ثقافياً، مثلاً القدس بحاجة إلى معهد مسرح أو دراما يخرّج أجيالاً جديدة للحياة المسرحيـة، هذا ما يقوله الفنان حسام أبو عيشة، محتـجاً وحزيناً على النقص الفظيع في أجيال الدراما الجديدة، إنني أدعو من هذه الزاوية إخوتي المثقفين العرب إلى وقفة جادة مع عطش القدس الثقافي، ولا أقصد بالوقفة الجادة المقالات والقصائد، بل التحرّك بشكلٍ عمليّ بالتعاون مع شرفاء الثقافة الفلسطينية للحفاظ ثقافياً على وجه المدينة التي بدأت تفقد ملامحها العروبية. القدس ليست لنا فقط، إنها ملككم أيضاً أيها العرب، إنّ بلاطات القدس القديمة لن تنسى وقع خطوات الجميل والرائع العراقيّ معروف الرصافي وهو يمضي بطيئاً وشامخاً باتجاه مقهى الصعاليك في باب الخليل، وأنّ أزقة القدس وقاعاتها وجمعياتها القديمة لن تنسى مثقّفها وأستاذها الكبير اللبناني نخلة زريق أعيدوا للقدس لها لسانها المقطوع، وجلد وجهها المسـروق، اطمئنوا، فهذا لن يتسبّب بغضبٍ أمريكي أو احتجاجٍ أوروبيّ، لا نريد جيوشكم، لا نريد صلاح الدين السياسي، أو الديني، فنحن نعرف أنّه لن يعود فهو محضُ وهمٍ، أو مرض، محض أُمنِيَة، نريد صلاح المثقف الذي يقتحم القدس بالنهضات الثقافية والحراك الفكري، يفجّر فيها ينابيع الفكر التي جففها الزمان اللئيم، الثقافة هي حصننا الأخير، جبهتنا المتبقية، لو انهارت لفقدنا خيطنا المتين الأخير الذي يدلّ على عمقنا، ويشير إلى ملامحنا، ويثبت هويتنا ووجودنا ويوصل إلى مستقبلنا، إنّ وجود الغزاة في خاصرتنا وحول عيوننا وفي منابت شعر رؤوسنا، لا يثير الفزع ما دام دَمُنا ووعيُنا وقلبنا محصنون بفكاهة الجاحظ ووجودية أبي حيان وحكمة أبي العلاء، وتسامح وتمرّد ابن رشد، فليبقوا هنا، هؤلاء الغزاة، يحفرون في جسدنا رماحهم كلّ يوم، فمصيرهم ذات يومٍ إلى هاوية، لكن انهيار الثقافة وموتها، لا يبقي لنا ذريعة للبقاء كشعبٍ يبحث عن ذاته المبعثرة في أصقاع المؤامرات والخيانات.
إنّ المدينة التي تضمّ عظام رابعة العدوية شبه ميتة ثقافياً، إنها تحتضر، وها هي عظام رابعة تموت كلّ يوم، فلا غناء في القدس ولا شعر ولا رقص ولا مسرح، ولا نصوص، أليس ذلك سبباً مقنعاً لأنْ نتألم ونحزن ونخاف؟
 

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



التالي

الحملة الصهيونية على مكتبات القدس منذ عام 1967 م وحتى يومنا هذا

مقالات متعلّقة

علي ابراهيم

عام من "الطوفان" وما شجن في النفس والعالم!

الثلاثاء 8 تشرين الأول 2024 - 10:54 م

لو سألنا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أيَّ خبير إستراتيجي أو محلل سياسي، عن التغييرات الكبرى في العالم، والصراعات القادمة فيه، لتحدث عن ملفات عديدة، ابتداء بالصراع الروسي والأوكراني، وتحجيم ا… تتمة »

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »