القدس.. هجمة "إسرائيلية" أخرى

تاريخ الإضافة الأربعاء 24 تشرين الأول 2007 - 8:46 م    عدد الزيارات 4635    التعليقات 0     القسم

        



المأثور الشعبيّ الذي يصف حال أهل المدينة المقدسة، والسياسات والممارسات "الإسرائيلية" المتّبعة بحقّهم هي "تفضّى القرد لمعطْ الجلد"، وخصوصاً اليوم وبعد ما وصلت إليه الحالة الفلسطينية من وضعٍ داخلي غاية في الخطورة والتعقيد والتأزيم، وبعد أنْ أصبحت أولوياتنا ليس إنهاء الاحتلال...
هذه الحالة الفلسطينية وما وصلت إليه، استغلها الاحتلال في تشديد إجراءاته وممارساته القمعية والإذلالية بحق أهل المدينة المقدسة، ولم تعدْ المدينة تبدو كمدينة أشباح في الليل فحسب، بل وحتى في وضح النهار، حيث أصبح المقدسيّون مطاردين من قِبَل شرطة الاحتلال في كل زقّة وشارع مقدسيّ، حيث تقوم بتحرير المخالفات لكل السيارات المتوقفة في شوارع القدس، وحتى لو كان الأمر للحظات أو لقضاء حاجة بسيطة، وأي صاحب سيارة يريد أنْ يوقف سيارته على رصيف إحدى الشوارع، عليه شراء بطاقة وقوف وإلا فالمخالفة بانتظاره، وهذه الخطوة الاستفزازية واللاشرعية تبرّرها بلدية القدس بالمساواة بين شطريْ المدينة، ويا عيني على هيك مساواة، فبلدية القدس قبل كل شيء، تعرف تماماً أنّه في الشطر الغربي من المدينة، هناك بنية تحتية كاملة، تخدم هذه العملية حيث المواقف والأرصفة والشوارع الواسعة والحدائق والمتنزهات وكذلك المواصلات العامة التي، تصل إلى قلب المدينة مما يمكّن السكان من قضاء حاجاتهم، أمّا في الشطر الشرقي من المدينة فهذه الخدمة غير متوفرة، ناهيك عن أنّ الوضع الاقتصادي مختلف تماماً، ويوجد فرق شاسع بين شطري المدينة اقتصادياً وخدماتياً.

والمساواة التي تتحدّث عنها البلدية، ليتها تطبقها في الجوانب الخدماتية، وليس فقط في تشليح السكان العرب وتقشيطهم ضرائبياً، ودون أية خدمات تذكر، فسكان القدس الشرقية يدفعون ما نسبته 25% على الأقل من الضرائب المجباة من سكان القدس بشطريْها، ويصرف منها فقط على خدمات القدس الشرقية ما لا يزيد عن 5%. والأمور ليست وقْفاً على هذا الجوانب، بل إنّ بلدية وشرطة الاحتلال يصعّدون من وتائر قمعهم للسكان بشكل هستيري، حيث تشتد حملة هدم وتغريم المباني الفلسطينية بدعوى عدم الترخيص، وهي تعرف أنّ المخططات الهيكلية لا تفي لعشرين في المائة من احتياجات السكان وتوسعهم وزيادتهم الطبيعية، وكذلك المخططات الهيكلية الموضوعة للشطر الشرقي من المدينة، لا تتّفق واحتياجات ورغبات السكان، وهذا يندرج في إطار الأهداف السياسية "الإسرائيلية" بإحكام السيطرة على الشطر الشرقي من المدينة، وجعلها ذات أغلبية سكانية يهودية.. وكذلك دوريات وشرطة الاحتلال تنتشر بشكل كثيف على طرقات وشوارع المدينة وضواحيها، بغرض تحصيل الضرائب من السكان، وبمسميات وأشكال مختلفة، ضريبة المسقفات "الأرنونا"، ضريبة تلفزيون رغم أنّ السكان نادراً ما يشاهدون بث التلفزيون "الإسرائيلي"، ضريبة دخل ورسوم تأمين وطني وغيرها، وكل من لا يدفع بشكل فوري، فهو عرضة للسجن ومصادرة سيارته..
والشيء العجيب والغريب أنّ الاحتلال الذي دمّر نسيجنا الاجتماعي وقِيَمنا وأخلاقنا، وهو كذلك الذي ينشر كل أنواع وأشكال الأمراض الاجتماعية في مدينتنا، أخذ بشكلٍ لافت للنظر وبعد تراجع دور القوى الوطنية والسلطة الفلسطينية، يتدخّل في كل شؤون ومناحي حياتنا، في الخلافات والمشاكل العشائرية والقبلية "الطوَش"، بل وحتى الخلافات الزوجية، والدخول في تفاصيل حياة الناس الشخصية، لأسبابٍ ليست بخافية على أحد، وهذه الهجمة التي توسّعت بعد تعمّق الأزمة الداخلية الفلسطينية واستفحالها، تجابه وتواجه فلسطينياً بسلسلةٍ من الشعارات من العيار الثقيل، وعددٍ من ورش العمل والأيام الدراسية والمؤتمرات الصحافية، وكذلك خطابات تحمل الكليشهات نفسها والتي نقرأها في صحيفة "القدس" قبل عشرين عاماً، ناهيك عن البيانات الفصائلية التي تصدر في المناسبات لكي تذكّر بحضورها ووجودها، ولكي تقول للسكان المقدسيين بأنّ القدس، عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولا سلام دونها!!..
أمّا لجهة ترجمة الشعارات والأقوال إلى أفعال وبرامج وآليات عمل للتطبيق والعمل على مشاركة المقدسيين همومهم الاقتصادية والاجتماعية وتعميق صمودهم وثباتهم على أرضهم، فهو غير متوفّر حتى بحدوده الدنيا. فالقوى الوطنية والإسلامية والتي تشكّل رأس الحربة في التصدّي للسياسات والممارسات "الإسرائيلية"، هي نفسها تعاني من أزمات، والتنسيق بينها موسميّ ولا يراكم جهداً وفعْلاً يُبْنى ويعول عليه. بل ووصل الأمر أنّه حتى في التشكيلات الوزارية سابقاً، ومن باب رفع العتب كان يعيّن وزير مفوّض لشؤون القدس، أما في الوضع الحالي، فالقدس تغيب عن الأجندة الفلسطينية، ليس في الهم الوطني والسياسي، بل وحتى في الهموم المباشرة للمواطنين اقتصادياً واجتماعياً وخدماتياً وعربياً وإسلامياً..
فالأمور يمكن لنا توصيفها على نحو أكثر سوءاً، ويأتي انعكاساً للواقع العربي والإسلامي الواصل لمرحلة الانهيار، حيث الردود العربية والإسلامية على الممارسات "الإسرائيلية"، بحق المدينة وسكانها من أسرلة وتهويد، لا ترتقي إلى مستوى الحدود الدنيا من الفعل المطلوب، لا على مستوى الدعم السياسي ولا المالي ولا الإعلامي، بل تبقى في الإطار النظري، ومسلسل "كليشهات" الإدانة والاستنكار والتمنيات والدعاوي من طراز "للبيت رب يحميه"، و"اللهم أهلك اليهود وشتت شملهم.."إلخ.
إنّ هذه الهجمة "الإسرائيلية" الواسعة على المدينة المقدسة، تأتي نتاجاً وانعكاساً، لحالة الضعف الفلسطيني، ورغم كل ذلك فإنّ هذه الهجمة، بحاجةٍ لتضافر كلّ الجهود والقوى والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، من أجل مواجهتها والتصدّي لها، ومن خلال جهدٍ موحّد ومنظّم، يستنفر كلّ طاقات وإمكانيات المقدسيين والشعب الفلسطيني، من أجل المحافظة على هوية وعروبة المدينة المقدسة، والتي أضحت تتعرض لمخاطر جدية وحقيقية، تنذر بأنّ الاحتلال يسعى لحسم مسألة السيادة عليها، بكلّ الأشكال والوسائل والأساليب المشروعة وغير المشروعة في أية تسوية سياسية قادمة، مستفيداً من حالة الشرذمة والانقسام في الساحة الفلسطينية، وانهيار الوضع العربي والإسلامي، فهل نرتقي فلسطينياً وعربياً وإسلامياً إلى مستوى المسؤولية والتحديات والمخاطر، أم تضيع المدينة المقدسة، تحت صخب شعاراتنا وخطاباتنا وبياناتنا والأقوال غير المقرونة بالأفعال؟
_____________________________________
* كاتب ونقابي فلسطيني يقيم في مدينة القدس.
 

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



السابق

أطلال القدس‏..‏ بعد‏40‏ عاماً من الاحتلال والتهويد

التالي

إعلاميّون من أجل القدس

مقالات متعلّقة

علي ابراهيم

عام من "الطوفان" وما شجن في النفس والعالم!

الثلاثاء 8 تشرين الأول 2024 - 10:54 م

لو سألنا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أيَّ خبير إستراتيجي أو محلل سياسي، عن التغييرات الكبرى في العالم، والصراعات القادمة فيه، لتحدث عن ملفات عديدة، ابتداء بالصراع الروسي والأوكراني، وتحجيم ا… تتمة »

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »