لتكن (مدن الدنيا كلها) القدس!..
ستكون القدس (عاصمة للثقافة) العربية للعام المقبل 2009 بعد أنْ ينتهي عام 2008 المطرّز باسم دمشق (عاصمة للثقافة) العربية. كيف يمكن أنْ تكون القدس -وهي المحتلة والمغتصبة والخاضعة لعملية التهويد المبرمج على قدم وساق وأكثر- عاصمة للثقافة العربية؟
بل كيف يمكن لنبتة الثقافة أنْ تنمو وقد اقتلعت من الجذور وألقيت في اليمّ المالح؟ بل لنكن أكثر توفيقاً: القدس، الفلسطينية- العربية- المسلمة- المسيحية- المقدسة عند الله القوي العزيز التي بارك الله حولها كرمى للحبيب المصطفى أكبر من أنْ نكرّس نحن لها عاماً واحداً فقط.. وأوسع وأكثر وبمدى مفتوح وأبهى وأقدر وأروع من أنْ تكون المساحة المحدّدة لها (جغرافياً) هي سجنها في القلب الفلسطيني فقط مع الامتناع عن منح خصوصيتها القدسيّة للعالم كله، بعد العرب والمسلمين أيضاً.
الغريب أنّنا تابعنا (معارك) على صفحات الجرائد في الضفة وغيرها -عن المناسبة- وعن اختيار هذا الاسم أو ذلك من الكتّاب والمبدّعين الفلسطينيين وتجاهل هذا الاسم أو ذاك أو نسيانه ضمن اللجان المشرفة على المناسبة -وقرأنا أكثر من عتاب وأكثر من رسالة لوم لهذه الجهة أو تلك- خاصة من (سيس) بل (منطق وفصل) المناسبة الكونية هذه على قدر من الضيق يدلّ على عجز في المقدرة على الخروج من (شرنقة الذات) التي هي مع الأسف حبيسة المنطقة أو الفصيل أو الفئة أو هي جزءٌ من الخلاف بين تيار وآخر في الساحة السياسية الفلسطينية.
ما أكثر ما نهدر الفرص، بل لنقل إنّنا اختصاصيّون في تضييعها وإهدارها بالمماحكات وقصر النظر والغطرسة أو حتى محاولة (الإلغاء). لا، فالقدس أكبر، وأعظم، وأروع وأبهى، وهي ههنا في الصدور، وهي ههنا في الرؤوس وهي ههنا في المآقي وفي الأنفاس وقطرات الماء بل في النهارات والليالي. لندع العالم كله يقرأ سِفْرها، يقرأ ما حل بها.
لتكن أولاً كلّ مدننا العربية (عشيقة القدس وتوأمها) بدءاً من دمشق التي أقدمت وقدّمت وابتدأ مشوار الفعل القادم منها.. بصرف النظر عن الحرارة (الفاترة) للحدث وتغطيته إعلامياً في الأقل. لكنّ دمشق ما عليها تقدمه، فالمسافة بينها وبين نهاية العام مديدة وهي يمكن أن تشغلها بالكثير عن القدس -عاصمة فلسطين- مسرى الرسول- وأرض المهد والقيامة والتي باركها الله بالأنبياء والصدّيقين والشهداء وهي أمّ تندب السلام الذبيح على أسوارها أبداً.
لنقدّم للدنيا صورة القدس وهي تقاوم الاحتلال، وهي في المصيدة مكبلة، لنمنحها اليد الطليقة، الفكرة الحرة، والكلمة الحلوة، والقدرة على التجوال... فلنكن كلنا أجنحة للقدس، بالكلمة، مسموعة ومقروءة، مكتوبة وملقاة وكلها معطرة بأريج الصدق ولها جزاء المحاولة.
من منّا يقدر أنْ يذهب فعلاً إلى القدس إنْ دُعِي إلى أمسية هناك، والقدس في المذبح، في المسلخ، والحواجز تقف بيننا وبين أنْ نراها بطلاقة، وأنْ نصلي فيها تحت السماء الزرقاء؟ بل إنّ المحتل ليتمنّى أنْ يمنع عنها وعنا ليس الرؤية فقط، ولا اللقاء وحسب، بل حتى الهواء، إذْ هو يحمل أريج الحياة وعبق الماضي، وصهيل الجياد وصليل السيوف، تماماً كما يحمل آهات البعد وشهقات الحنين المغلول، ودموع الأمهات الثكالى، وأغاريد الصبايا الحالمات بالحرية والعبادة، لذا فالمحتلّ الصهيوني لا يريد لنسمة قدسية أنْ تمسّد جباهنا، ولا أنْ تتغلغل في رئاتنا، ولا لضوع التاريخ وأريج البطولة والشهادة أنْ يتمّ لهما التجسيد الحي في دنيا اليوم.
مهمتنا أنْ نحوّل العالم -في العام المقبل- إلى ساحة قدسية، إلى شاهد وشهيد، إلى متلق ومبدع، إلى أنْ يكون كل يومٍ من أيام 2009 حافلاً بما يجعل الدنيا تقرأ سفر النازحين واللاجئين والحالمين بأرضٍ انتزعت منهم والذين دكّت منازلهم فوق رؤوسهم والذين صاروا لاجئين على تخومها بعد أنْ حملوا من غرفهم ومن هواهم وتاريخهم ومنجزهم إلى خارج أسوار القدس العتيقة. لنجعله عاماً نكون نحن فيه مندغمين في شهوة أن تكون القدس حرة، أن تكون فيها المآذن طليقة كما أجراس الكنائس، كما طيور أرهبها دوي وأحرقت أجنحتها نار، وخاف منها الصوت فانحبس أنْ يؤدّي طقوسه الموروثة والطبيعية، حتى الأنين.
من منّا لا يقدِر أنْ يحلق في سماء الدنيا حاملاً حكاية فلسطين، باختصارها الأورع وعصارتها الأقدر على التعبير والتنوير وإن كان يبعد عنها -جغرافياً- آلافاً مؤلفة من الأميال ومن الكيلومترات؟
لتكن كلّ عواصم العالم قدساً، بما في القدس من حيوية ومن حقيقة، من ألم ومن أمل، من ظلم وجور ومن مقاومة.. أيضاً. لتشهد العواصم والمدن حكاية (مدينة السلام) التي يذبح على ركبتيها السلام -يومياً- منذ أكثر من ستين عاماً.