شعرٌ للقدس (الجزء السادس)

تاريخ الإضافة السبت 19 تموز 2008 - 12:15 م    عدد الزيارات 6082    التعليقات 0     القسم

        



حزن المدينة

بالرغم من وصف جمال مدينة القدس وروعتها وبهائها -كما لاحظنا في قصيدة أديب رفيق محمود سابقاً- إلا أنّنا كثيراً ما نقع على هذا الجوّ الأسيان في القدس، ولا تخفّ من حدته خشوع المساجد أو الكنائس، ولا حتى استلهام التاريخ -كما بيّنا أعلاه- فالحزن هو بسبب الواقع والمعاناة اليومية للإنسان الفلسطيني؛ فهذا حنا أبو حنا (1928) يجوب صباحاً أنحاء المدينة، وقلبه يحتضن الجراح، وقد ضمدتها الرؤى:

 

"وقناطر القدس القديمة كالضلوع
وعلى القباب على المآذن قبلة الشمس الحزينة"

 

وها هي الحياة تمضي عادية رتيبة، وتتثاءب الأبواب والنوافذ، والأخبار تزعق في الفضاء، و"باب العمود يعدّ للغادين فاكهة الصباح". إنها لوحة كئيبة لواقع حزين لا تقلّل من كآبتها إلا لفظة (الرؤى) التي تتفتح لاستقبال الحلم والتفاؤل.

 

كما يرى نعيم عرايدة (1958) أنّ حجارة المعابد مكدّسة بلا وئام، وأنّ الحبال التي تربط الأجراس بالكنائس تعقّدت، وثمّة صرخة طفل في الزوايا المعتمة، وهو ينادي، ينادي ولا من مجيب، بينما هناك شيخ يهمس "الله أكبر"، فيدعو الراوي الله أن يشهد لمصلحة القدس.

 

غير أنّ علي الخليلي (1943) في قصيدته "ولا تتدحرج عن صدرك" يبلغ ذروة الحزن، وذلك في تقمصه وتشربه القدس:

 

أنْ تذوب في القدس، وأن
تتحسس المجاعة والتاريخ
كل جمال وكل حي، وتقول في
سرك إن هذا السور جسدك
وإن هذه المدينة بابك إلى
الدنيا
أن تغرق في أحزان القدس
لتخرج منها وفيها نحوها

 

ويمضي الشاعر متخيّلاً نفسه أنّه باب مسجد، وأنّه قوس كنيسة، بل هو الطريق نفسها. إنها الحلولية ومنتهى العشق، حتى لتختلط عليه الأمور:

 

ويداك أم أفق الأسواق القديمة
المغلقة؟

 

يتراكم الحزن المرعب في قصيدة الشاعر خرائط ومخطوطات وأقواسًا، إنه حزن مريع، حزن في المدينة، وحزن في النفس، ولنتابع رحلة الشاعر في المدينة مجردًا نفسه في الخطاب:

 

نهضت من قبرك، وبحثت عن
نفسك في مخطوطة قديمة

 

وفي ذروة توحّده مع القدس يقول:

 

لا تسقط القدس عن صدرك
ولا أنت تكبو

 

إذن هو العشق الصوفي الذي يعتبر استكمالاً لعشق سميح القاسم التاريخي، لهذا فإنّ الشاعر هنا -وقد تشرّب القدس في دمه، وعانى معاناتها- يبدو لنا وكأنّه هو نفسه القدس، من غير لجوءٍ إلى الاتكاء على رموز دينية أو تاريخية.

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



السابق

لتكن (مدن الدنيا كلها) القدس!..

التالي

شعرٌ للقدس (الجزء السابع والأخير)

مقالات متعلّقة

علي ابراهيم

عام من "الطوفان" وما شجن في النفس والعالم!

الثلاثاء 8 تشرين الأول 2024 - 10:54 م

لو سألنا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أيَّ خبير إستراتيجي أو محلل سياسي، عن التغييرات الكبرى في العالم، والصراعات القادمة فيه، لتحدث عن ملفات عديدة، ابتداء بالصراع الروسي والأوكراني، وتحجيم ا… تتمة »

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »