مخيم شعفاط... الصفحات المطوية: ظاهرة المخدرات إلى أين؟!
قليلاً ما يتمّ تناول قضايا العالم السفليّ التي تستوطن حياة الشعوب من قِبَل أبنائها، لا سيما تلك الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال في ظروف مواجهة صعبة كحالتنا. يتم التركيز من قِبَل المفكّرين والكتّاب على الجوانب المضيئة المشرقة وتجاهل الظواهر السلبية أو تحييدها رغم فداحتها في الغالب. والشعب الفلسطيني عانى العديد من الظواهر السلبية التي استوطنت في عالمه السفلي دون أنْ تجد من يعالجها في إطار دراسة شاملة محكمة. فظاهرة العملاء وما جرّته علينا من ويلات، والمخدرات وما تفعله في أكثر من زاوية من زوايا البلد، والعصبيات العشائرية والحزبية على حساب الوطن، والاحتكام إلى القوة والاستبداد والتسلط في حسم الخلافات وغيرها من القضايا، كلها ظواهر تتفاوت من حيث الحجم والتأثير على القضية الفلسطينية. وقد لعب الاحتلال دوراً كبيراً في تركيز وتكريس العديد من هذه الظواهر حقاً، كما استخدمه البعض أحياناً شماعة لتكريس ظواهر أخرى في الواقع الفلسطيني. من هذه الظواهر التي نسلط الضوء عليها في هذا التقرير ظاهرة انتشار المخدرات في مخيم شعفاط.
5000 آلاف يتعاطون المخدرات في محافظة القدس!!
يتحدّث لنا الشيخ عكرمة صبري المفتي السابق للقدس والأراضي الفلسطينية ورئيس اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات في القدس، عن تقديراتٍ تشير إلى تورط حوالي خمسة آلاف شاب من القدس وضواحيها في تعاطي المخدرات. ويحوز مخيم شعفاط نسبياً على نصيب الأسد بين الغارقين في هذه الآفة، فتقديرات أبو محمد (دير أيوب) من الناشطين في المخيم أنّ المتورطين فيه وفقط يتعدّون الخمسمائة شاب، بينما ينفي عاهد كيالة أحد مؤسسي مركز النور لمكافحة الظاهرة في المخيم والنبي موسى أنْ تكون هناك إحصائية رسمية دقيقة إلا أنّ التقديرات تشير إلى صحة هذا الرقم. والأبلى أنّ هذه المصيبة تتركّز في أوساط الشباب وفيمن هم في سن المراهقة لا سيما أولئك المنضمّين الجدد إلى فئة المتعاطين كما يقول أبو محمد. ومن واقع مشاهداته يؤكّد سعيد أبو عصب (الشماعة) أنّ الكثير من شباب المخيم ذوي السن الصغير واقعون في الآفة ولذلك لا يمكننا التقليل من حجم المصيبة بحالٍ من الأحوال، فالمشكلة خطيرة وكبيرة ولا بدّ من وقفة جادة لمواجهتها. أيّاً كان الرقم فالحديث عن المئات من شباب المخيم والآلاف من شباب القدس والبلدة القديمة. وإذا نظرنا إلى المتعاطين من سكان المخيم بالنسبة إلى سائر الأراضي الفلسطينية يتبيّن لنا أنّنا أمام مصيبة وطنية وكارثة محقّقة تحلّ بواقع ومستقبل شباب هذه المنطقة تحديداً. ولذلك فإنّ مشكلةً كهذه تستحقّ من الكلّ الوطني الوقوف على كيفيات الخلاص منها والحيلولة دون تفشيها أكثر فأكثر. فالعدد غير متوقّفٍ عند هذا الحدّ لا سيما في ظلّ انعدام البرامج الفاعلة إزاء ذلك، ومن المرجّح أنْ يكون هنالك كل يومٍ مرشّحون جدد للوقوع في شباك الفاسدين. ويضيف لنا حمدي الرجبي وعماد الشلودي من الناشطين في القدس أيضاً أنّ الرقم سيكون أكبر إذا ما أضيف إليه أولئك الذين يتعاطون المادة المخدّرة التي تعرف بـ(الماروانا) والتي يعدّها البعض مخدرات خفيفة تجلب الشعور بالسعادة والسرور. وعلى الرغم من النشاط الذي يبديه بعض المسؤولين وأصحاب الضمائر في المخيم تحديداً وخارجه إلا أنّ الخوف لا زال قائماً والمشكلة متفاقمة. من هذه الجهود كان افتتاح مركز النور لمكافحة المخدرات في المخيّم والذي يقف عليه أشخاص من الذين تعافوا من هذه الآفة منذ اثني عشر عاماً أمثال عاهد كيالة كما يقول أمين سر اللجنة الشعبية في المخيم خضر الدبس (بيت نتيف)، إلا أنّ النجاحات التي تحقّقت كانت نسبية جداً كما أنّ الجهود التي بذلت كانت في حدود الإمكانات القليلة المتاحة.
المخيّم تحت وطأة تجار المخدرات منذ السبعينيات
تفشّت هذه الظاهرة في المخيم -كما يقول أبو محمد- في السبعينيات وبداية الثمانينيات حيث اقتصرت آنذاك على نوع مخدرات يدعى (الحشيش). فقد كان كثيرٌ من الأشخاص يعتبرونها مادة للانبساط والسرور خاصةً في الأفراح والمناسبات، وبعدها تحوّلت الظاهرة إلى تجارة وانتقل الحشيش إلى مستويات أعلى من أنواع المخدرات، وقد تراخى المسؤولون في المخيم آنذاك في مواجهة الظاهرة مما أدّى إلى توطّنها فيه. لعبت الانتفاضة الأولى دوراً مميزاً في تحجيم الظاهرة وتقليصها عبر ردع العديد من التجار والمروّجين لهذه الآفة إلا أنّ حوالي المائة من هؤلاء استمرّوا في هذه الطريق بحماية الاحتلال أو العائلات الكبيرة. لذلك لم تنتهِ الظاهرة وإنما تحقّق بعض الإنجاز في الحدّ منها. وبعد قيام السلطة الفلسطينية عادت الظاهرة -كما يؤكّد أبو محمد- بشكلٍ أوسع وأبشع، فالناس الذين كانوا يقاومون هذه الظاهرة أصبحوا يلقون هذا العبء على السلطة وأجهزتها والمفرّغين فيها، لا سيما بعد أنْ نال بعضهم السجن لهذا السبب وخرجوا منه ليجدوا عدم تقدير واحترامٍ لنضالاتهم على مدار السنين مما تسبّب في إحباطٍ أصاب بعضهم وأقعد آخرين، بينما قلّة من شباب المخيّم بقوا يحمِلون عبْء المواجهة مواصلين الطريق. ويجمع من قابلناهم على أنّ تجارة المخدرات تجري على عين الاحتلال بل بإشرافه المباشر وغير المباشر. فالدبس يؤكّد أنّ الوكر الرئيس لتجار ومتعاطي المخدرات في المخيم لا يبعد عن المعبر الذي تشرف عليه قوات الاحتلال سوى عشرين متراً دون أنْ يحرّك هؤلاء ساكناً لوقف ما يجري هناك، ويُدعى هذا الوكر -كما يقول أبو محمد- بتجمّع الكوكا كولا حيث كان مستأجراً للشركة قبل تركها له، ففيه تتمّ عمليات البيع والشراء والتعاطي دون أنْ يتمكّن السكان من طرد روّاده أو إبعادهم عن المكان أو وضع حدٍّ لهم كونهم تحت حماية الجيش وشرطة الاحتلال. وفي إطار تشجيع الاحتلال لهذه الظاهرة شاهد سكان المخيم -كما يقول أبو رائد خشان (برقوسيا)- عملية اقتحامٍ قامت بها مخابرات الاحتلال لأحد تلك الأوكار لاشتباهها بوجود أحد المطلوبين لها، ولما لم تجده تركت المكان دون أنْ تتدخّل في أولئك الذين كانوا يتعاطون المخدرات جهاراً وهي تعرفهم. من هنا فالمشكلة في المخيم ليست حديثة بل هي مستشرية في واقعه ويعاني السكان جراءَها الويلات في حين تكثر التعدّيات والسرقات والتخريب كما يؤكّد سعيد أبو عصب (الشماعة)، وأصبحت الظاهرة تلقي بظلالها على السكان عموماً حيث الخشية على الأبناء والبنات في المدارس والجامعات تلاحق الآباء وتجعلهم في حالة ترقّبٍ وتحفّز دائميْن مخافة أنْ يُغَرَّرَ بأبنائهم أو يقَعوا في الشرك.
(راتبٌ) لمن يتعاطى المخدرات!!
يؤكّد الشيخ عكرمة صبري أنّ الاحتلال هو الذي يقف وراء تفشّي الظاهرة في مدينة القدس ومحيطها هادفاً من وراء ذلك إلى تخريب الجيل وصرفه عن القضايا التي تحيط به وعلى رأسها مقاومة الاحتلال. فالاحتلال يعرف تجّار المخدّرات ويعرف من يتعاطونها ويعرف أوكارهم، ولا يحرّك ساكناً لوقف ذلك بل على العكس فإنّ من يثبت أنّه يتعاطى المخدرات يتلقّى من تلك السلطات راتباً يدعونه (ضمان دخل)، حيث يصرف للشخص راتب شهري ما دام مدمناً كإعانة له ولأسرته على اعتبار أنّه لا يعمل، وبين الحين والآخر يجرون للمدمن فحصاً مخبرياً لإثبات أنّه يتعاطى المخدرات كي يستمروا في صرف راتبه، وفي الوقت الذي يتبيّن لهم أنّه أقلع عنها يقطعون راتبه فوراً، مما يدفع بعض الفقراء ممّنْ لا يجدون سعة من المال أو يرغبون في التخلّص من هذه الآفة -كما يقول صبري- لتعاطي المخدرات مجدّداً قبل الفحص كي يضمنوا استمرارية الراتب، وهذا ما أكّده أيضاً عاهد كيالة بخبرته مع المدمنين في مركز النور بمخيم شعفاط، وكذلك الرجبي والشلودي واللذيْن ذكرا أنّ المتعاطي يتلقّى ما بين الألفيْن وثلاثة آلاف شيكل لمجرد أنّه يتعاطى. فبدلاً من أنْ يصرفوا راتباً للتائب -كما يقول صبري- يصرفونه للمتعاطي، ولو كانت نواياهم سليمة لما فعلوا ذلك ولوقفوا إلى جانب المتعافي تشجيعاً له لا على العكس. ويعزو الدبس ذلك إلى رغبة الاحتلال في خلق جيلٍ منفصل عن القدس كقضيةٍ وطنية يناضل من أجلها وعزله لينصب تفكيره في إطار الرغبات والنزوات.
المخيم ومنطقة التجارة الحرة
أمّا عن الاكتظاظ الذي يعاني منه مخيم شعفاط فهي آفة أشار لها كيالة والدبس وصبري وأبو محمد على أنّها من الأسباب التي تقف بشكلٍ غير مباشر خلف انتشار ظاهرة المخدرات، ففي أوساط الناس (الغرباء) مختلفي المنابت والمشارب والهوى يختفي تجار المخدرات والمتعاطون، حيث ينسلّون بين الناس دون أنْ يكونوا معروفين بالضرورة، ويُشكّلون أوكاراً ويبنون مجموعاتٍ ويشيعون الأذى. وقد استطاع عملاء الاحتلال وفقاً للدبس أنْ يعمّقوا هذه الظاهرة ويمدّوها بإمكانات التوسع والانتشار تحت حماية جيش الاحتلال. ففي الوقت الذي لا تتدخل قوات الاحتلال لمنع الظاهرة أو الحد منها ولا تُدخِل شرطتها إلى المخيم لهذا الغرض تمنع السلطة الفلسطينية من دخول المخيم أو التصدّي لهذه الظاهرة كما صرّح في وقت سابق فضل العالول مسؤول مكافحة المخدرات في الضفة الغربية. وبالتالي فالهاربون من شرطة الاحتلال والباحثون عن مكانٍ أكثر أمناً يتوجّهون إلى مخيم شعفاط كي يمارسوا مهنتهم القاتلة في تجارة السموم، حيث يسمح لهم عملياً القيام بذلك كما يؤكّد أبو محمد، وبعضهم حتى هذا اليوم يمارس مهنته تلك محمياً من قِبَل العائلة أو شخصيات نافذة ليس من مصلحتها رفع الغطاء عنهم فضلاً عن دور الاحتلال الضالع حتى النهاية في هذه الجريمة. وبالتالي فليس هناك قانون يضبط المنطقة ويحاسب الناس لا قانون السلطة ولا قانون احتلال وهي أشبه بالمنطقة الحرة، وفي الوقت الذي يمنع فيه الاحتلال الأب من ضرب ابنته عند الضرورة فإنّه يوقع أشد العقوبات بمن تسوّل له نفسه من السكان أنْ يأخذ على أيدي هؤلاء العابثين بأرواح الناس وحياة الشباب كما يؤكّد أبو رائد خشان، فلا تستطيع مجموعةٌ من الشبان جدلاً أنْ تأخذ على أيدي هؤلاء لأنّ ذلك يعني وضعهم في السجن سنين وسنين، وهذا في حقيقة الأمر تشجيع فاضح بل حماية مجانية يقدّمها الاحتلال لمن يفعلون بشعب القدس وضواحيها هذا الفعل كونه معنياً في إغراق المخيم بالمخدرات.
الردع والقوة هما الحل
لأنّنا لا نملك القوة والقدرة على الردع فإنّ جهودنا تبقى منقوصة، فرغم أهمية التوعية والتربية والتثقيف والمعالجة ومحاولات الوقاية وغيرها إلا أنّ العامل الحاسم في الأمر كلّه هو القوة والردع كما يقول الشيخ صبري. هذا ما أكّدته التجربة وفقاً لأبي محمد، ففي الانتفاضة الأولى تقلّصت الظاهرة وتمكّنا بالقوة من وضع حدٍّ لتفشيها، ولو أنّ شباب الانتفاضة ضربوا رؤوس الفساد وكبار التجار آنذاك فضلاً عن البسطاء من المتعاطين للمخدرات وتُجّاره لاختلف الوضع في المخيم. واليوم لا يوجد حلّ جذري لهذه الظاهرة الخطيرة التي تهدّد أبناءَنا وبناتنا سوى القوة ومنع أولئك من ممارسة أعمالهم بالحرية التي يتمتّعون بها كما عبّر عبد الفتاح الجولاني (الشماعة). فإيران والسعودية حيث تقلّ معدّلات تعاطي المخدرات بشكلٍ هائل فإنّما هو ناتج عن الردع القوي بحق مروجي المخدرات وفقاً لأبي محمد. وفي ظلّ غياب أيّ سلطة قانون يبقى للناس الحق في ممارسة قانونهم الخاص كي يحموا مستقبل أجيالهم كما أكّد غير واحد. وتبدو هذه الأهمية أكثر عندما نرى أنّ أنواعاً مخفّفة من المخدرات يروّجونها بين الشبّان الصغار في المدارس ممّا ينذر بانتقالهم لأنواع أثقل منها وهو ما يعني ضرورة التعجيل في الحلّ قبل أنْ يستشري المرض و(يتّسع الخرق على الراتق).
التربية الأسرية والتوعية الوطنية
يعزو عاهد كيالة تفاقم الظاهرة فضلاً عن الاحتلال إلى قلة التربية الأسرية والتذرّر الأسري، مما أوقع الشباب في فراغ ثقافي ووطني أودى بهم للبحث عن ملئه بشتى الطرائق والسبل، ويرتبط انتشارها بشكلٍ أو بآخر عكسياً مع وتيرة النضال الوطني الفلسطيني وفقاً لأبي محمد، ففي الوقت الذي تشتدّ فيه المقاومة ويزداد الفعل النضالي تتراجع هذه الظواهر إلى حدّ الاختفاء والعكس صحيح. كما أنّ نقص المؤسسات التربوية والوقائية تفسح للعديد من العوامل الموضوعية المحيطة أنْ تلعب دوراً في فقدان البوصلة بالنسبة إلى شباب تلك المنطقة فلا يعقل وفقاً لكيالة أنْ تتحرّك المؤسسات في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات فقط وتبقى بلا حراك بقية العام، فالعمل مع الجماهير على الأرض تربية وتثقيفاً ووعظاً هو أساس كلّ تحرّك لمقاومة هذه الآفة بتبعاتها الخطيرة وهذا يستلزم جهداً دؤوباً وفعلاً متواصلاً. ويعتب كيالة على الشخصيات الوطنية في القدس والمؤسسات لعدم الوقوف كما يجب مع المؤسسات القليلة التي تعمل في هذا الحقل رغم أنّهم جميعاً وعدوا بذلك. إلا أنّ الشيخ صبري يؤكّد أنّ هناك دوراً يلعبه علماء الدين وخبراء في علم الاجتماع وأخصائيّون ورجال إصلاح وجمعيات لكن فعلهم يبقى محدوداً وضعيفاً في ظلّ غياب السلطة أو القوة التي من شأنها أنْ تردع، مستذكراً أنّ الجهود التي تبذل ينقصها الدعم المادي المتواصل، فهي تقوم على تبرّعات فردية ومجزوءة وغير كافية من أهل الخير، وما دام الأمر هكذا بلا قوة ولا مال فما عسانا أنْ نفعل. وفي هذا الإطار يوجّه الشيخ عكرمة والدبس وآخرون نداءَهم إلى الناس بأنّ الواجب الأول لمكافحة هذه الظاهرة يتوقّف على الأهل والأسرة بالتوعية والتربية والتثقيف وضرورة إبعاد أبنائهم عن رفقاء السوء لا سيما المراهقين منهم والأكثر ترشّحاً للوقوع في المصيدة، فقلة متابعة الآباء لأبنائهم وانشغالهم عنهم وفقاً لأبي عصب يُعَدّ سبباً رئيساً لضياع هؤلاء الصبية. ومن هنا لا بد من تضافر جهود المدارس والجامعات والمساجد والمؤسسات الوطنية والسلطة الفلسطينية لمكافحة هذا المرض حيث يبدي الجميع قصوراً متفاوتاً إزاء ذلك كما أكّد المتحدثون.