المحاكم الإسرائيلية رأس حربة تهويد المسجد الأقصى المبارك

تاريخ الإضافة الثلاثاء 28 شباط 2017 - 5:15 م    عدد الزيارات 9110    التعليقات 0     القسم مقالات

        


زياد ابحيص

باحث متخصص في شؤون القدس


أصدرت محكمة الصلح الصهيونية بالأمس حكماً على المرابطتين سحر النتشة وعبير فواز أدانتهما فيه بتهمة "منع الوصول إلى الأماكن المقدسة"، معتبرةً أن السيدتين حينما هتفتا بـ "الله أكبر" مستا بـ"حرية وصول" نائبة الكنيست عن حزب البيت اليهودي شوماليت معلم إلى "مكانٍ مقدّسٍ بالنسبة لها". لقد جاء هذ الحكم تتويجاً لمسيرةٍ طويلة لعبت فيها المحكمة الإسرائيلية دور رأس الحربة في تهويد المسجد الأقصى المبارك والتأسيس لاقتحامه وتقسيمه زمانياً، ومحاولة تحويله من مقدسٍ إسلامي خالص لا نزاع في طبيعته إلى مقدسٍ مشتركٍ بين المسلمين واليهود.


بعد احتلال المركز التاريخي للقدس عام 1967 كان صانع القرار الصهيوني أمام معضلة: إذ كيف سيتعامل مع المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، وكيف سيتعامل بالأخص مع المسجد الأقصى المبارك الذي تحمل الصهيونية الدينية طروحاتٍ إحلالية تجاهه إذ تدعي أنه مكان معبد سليمان المزعوم. كانت هذه المعضلة نابعةً من ثلاثة تحدياتٍ أساسية: الخشية من رد فعلٍ فلسطيني محلي ورد فعلٍ إسلامي أوسع ضد الدولة الصهيونية يخل بميزان القوى الهش الذي تمكنت من تأسيسه عقب حرب 1967، وخوفها من موقف القوى الكبرى من أية تغييراتٍ كبيرة وجوهرية تفرضها على هوية القدس، وتطلعها الداخلي لتجنب مواجهة القوى الصهيونية الدينية والقومية-الدينية، التي كانت تجلس في مقاعد المعارضة في تلك الأيام. تحت ضغط هذه العناصر الثلاثة كلٌّ بوزنه، سن البرلمان الصهيوني قانوناً خالياً من المعنى سمي بـ"قانون حماية الأماكن المقدسة" ونص على أن "الأماكن المقدسة ينبغي أن تحمى من التدنيس أو من أي شكلٍ من الاعتداء، [وأن تحمى] من كل ما يمس بحرية وصول أتباع مختلف الديانات إلى الأماكن المقدسة بالنسبة لهم أو يمس بمشاعرهم تجاه تلك الأماكن". وحدد عقوبةً بالسجن لسبع سنوات لمن يدنس تلك الأماكن وبخمس سنوات لمن يمس بحرية الوصول أو بمشاعر أتباع الأديان تجاه تلك الأماكن.


القانون المذكور لم يحدد الأماكن المقدسة، ولم يحدد الأديان، ولم يحدد ما هو المقدس عند كل دين، بلغةٍ أخرى تعمّد القانون أن لا يقول شيئاً، كي تبقى سلطة تفسيره لدى الحكومة الصهيونية، التي فسرته على أساس "الحفاظ على الوضع القائم"، وهكذا تعاملت الحكومة اليسارية القومية مع المسجد الأقصى كمقدّسٍ للمسلمين ومع كنيسة القيامة كمقدّسٍ للمسيحيين ومع "ساحة المبكى" المستحدثة حينها كمقدّسٍ يهودي. خلال السنوات التالية شهد المجتمع الصهيوني انتقالاً عميقاً نحو اليمين، فصعدت القوى القومية-الدينية الصهيونية وتصدرت المشروع الصهيوني، بينما تنحى اليسار القومي الصهيوني ليجلس على مقاعد المعارضة منذ عام 2002 على مدى خمسة عشر عاماً متتالية، شارك فيها في بعض الحكومات تحت رئاسة اليمين. هذا التغيير حمل معه كذلك صعوداً للجماعات المنادية ببناء المعبد على أنقاض المسجد الأقصى المبارك، وكما كان صعود اليمين تدريجياً، كان صعود جماعات المعبد تدريجياً كذلك. 


لم يكن بوسع هذه الجماعات أن تسعى لسن قانونٍ جديد مع بداية صعودها، فبدأت تعترض عبر المحاكم على تفسير الحكومة للقانون، ولعبت مع المحكمة الإسرائيلية لعبة تبادل أدوارٍ انقلب فيها تفسير قانون الأماكن المقدسة مئةً وثمانين درجة. بدأ المشوار مع استفسارٍ قدم للمحكمة العليا عام 1993، ردت عليه لإبداء رأيها حول الطبيعة القانونية لـ"جبل المعبد"، فردت المحكمة بأنه "أقدس بقعة لليهود" وبأنه "قلب الدولة وجزء لا يتجزأ من أراضيها"، وقد اعتمد شارون على هذا الرأي في إدخال حراسه –وهم موظفون رسميون- معه في اقتحامه للأقصى عام 2000، وهو الاقتحام الذي أشعل الانتفاضة الثانية وأعطى دفعةً كبرى لجماعات المعبد في مسعاها لتأسيس المعبد في مكان الأقصى المبارك وعلى كامل مساحته.


تقدمت تلك الجماعات خطوةً إضافية في عام 2003 وطلبت السماح للأفراد اليهود بـ"زيارة" المسجد الأقصى مرتكزةً لرأي المحكمة العليا، فصدر قرار من محكمة الصلح الصهيونية بحق اليهود بـ"زيارة" المسجد في 23/6/2003. هنا تغيرت ولأول مرة مهمة الجنود الواقفين على بوابات المسجد الأقصى المبارك من منع اليهود من دخوله، إلى السماح لهم بل وحمايتهم عند "زيارتهم" للأقصى، عاودت تلك الجماعات توجهها للمحكمة عام 2005 طالبةً زيارة اليهود ضمن "مجموعات" وحقهم بالصلاة فيه، فأقرت لهم محكمة الصلح "حقهم في الزيارة" ضمن مجموعات من 20 شخصاً، واشترطت أن لا يتزامن ذلك مع وقت صلاة المسلمين، فكانت المحكمة هي أول من اقترح للوجود صيغة التقسيم الزماني للمسجد الأقصى المبارك، لكنها ردت إمكانية الصلاة فواصلوا طريقهم للمحكمة العليا التي حكمت عام 2006 بأن "الحق" لليهود بالصلاة في الأقصى محفوظ لكنه ليس مطلقاً، ويمكن تقييده بضرورات النظام العام. في عام 2012 ردت المحكمة طلباً لتقديم القرابين في المسجد الأقصى في عيد الفصح اليهودي، على اعتبار وجود خطرٍ أمني لا تستطيع الشرطة مواجهته ما يجعل القضية ليست محلاً للحكم، ثم في 2013 قدمت الشرطة الصهيونية متطرفاً يهودياً أدى طقوس الصلاة في الأقصى فكان رأي المحكمة بأن صلاة اليهود في المسجد الأقصى هو موضوع سياسي شائك لكنه "حتماً ليس جريمة". 


بعد منع الشرطة الإسرائيلية للحاخام المتطرف يهودا غليك من الدخول إلى المسجد الأقصى المبارك إثر محاولة اغتياله، رفع الأخير قضيةً على الشرطة عام 2015 لتمكينه من "زيارة" المسجد الأقصى المبارك، فجاء قرار محكمة الصلح في 1/3/2015 بأن على الشرطة أن تضمن "أن اليهود قادرون على الصلاة في جبل المعبد" وهو المصطلح الصهيوني للمسجد الأقصى المبارك، ثم جاء الحكم الأخير ليدين مرابطتين مسلمتين بأداء شعيرةٍ طبيعيةٍ في المسجد هي التكبير، وليحاول إضفاء المشروعية على منع الشعائر الإسلامية لتسهيل دخول اليهود إلى المسجد، وهو يؤسس لمسارٍ أشد خطراً لن ينتهي عند منع التكبير فقط.


حتى اليوم ما يزال القانون المعمول به إسرائيلياً تجاه المسجد الأقصى هو قانون الأماكن المقدسة لعام 1967، لكن تفسيره انقلب بين نقيضين على مدى 14 عاماً بفضل دور المحاكم الإسرائيلية، وانقلبت مهمة الشرطة الصهيونية فيه من منع اليهود من دخول المسجد إلى حمايتهم وتسهيل دخولهم وصلاتهم ومنع المساس بـ"حرية" وصولهم إليه حتى وإن اقتضى ذلك منع وصول المسلمين إليه أو منع شعيرةٍ إسلامية مثل التكبير. هذه المسيرة تعيد التأكيد على أن المحاكم الإسرائيلية أداةٌ سياسية، وأنها محل نفوذٍ لأجنداتٍ دينيةٍ متطرفة، على نقيض الخطاب الصهيوني المستمر في استعراض حداثة الدولة وديمقراطيتها وعلمانيتها الفريدة في المنطقة. 


إن تحويل المسجد الأقصى المبارك إلى مقدسٍ مشتركٍ بين اليهود والمسلمين هو سياسة رسمية تتبناها السلطات الثلاث للدولة الصهيونية وترعاها، تشريعياً وتنفيذياً وقضائياً، لكنها تحاول تدوير الزوايا لتمريرها بشكلٍ تدريجي، وأمام هذا الوضع فإن مواجهة مخططات هذه الدولة بكل قوة ممكنة هو السبيل الوحيد لإفشال هذه المخططات، ويبدو أن عدداً من الدول العربية تسير بالاتجاه المعاكس تماماً بشكلٍ يجعلها داعمةً لهذا التوجه ومشجعةً له سواء أرادت ذلك أم أعمت عيونها عنه، وهذا ما يحتاج لإفراده بمساحة نقاشِ خاصةٍ به. 

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



السابق

القدس في القانون الدولي

التالي

فصاحة شهيدٍ مثقف

مقالات متعلّقة

علي ابراهيم

عام من "الطوفان" وما شجن في النفس والعالم!

الثلاثاء 8 تشرين الأول 2024 - 10:54 م

لو سألنا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أيَّ خبير إستراتيجي أو محلل سياسي، عن التغييرات الكبرى في العالم، والصراعات القادمة فيه، لتحدث عن ملفات عديدة، ابتداء بالصراع الروسي والأوكراني، وتحجيم ا… تتمة »

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »