من يدافع عن الأقصى في وجه مشروع التّهويد؟
الثلاثاء 2 تشرين الأول 2018 - 2:30 م 5532 0 مقالات |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدولية
تسعة وأربعون عامًا مرّت منذ إحراق المسجد الأقصى على يد المتطرّف مايكل دنيس روهان في 21/8/1969. على أثر هذه الجريمة، تداعى عدد من الدول الإسلامية لتشكيل منظّمة المؤتمر الإسلامي، المعروفة اليوم بمنظمة التّعاون الإسلامي، بهدف الدّفاع عن المسجد وحماية هويّته في مواجهة ما يحاك له من مخطّطات صهيونية تهدف إلى تهويده وابتلاعه.
توالت السّنون بعد ذلك لتشهد على مزيد من الجرائم الإسرائيلية حيال المسجد وعلى مزيد من التّآكل في الدّور الرسمي، العربي والإسلامي، في الوقوف في وجد المدّ المتعاظم لمشروع التّهويد، حتى بات أقصى ما يمكن توقّعه في وجه التّهويد والاعتداءات الإسرائيليّة على الأقصى بيانات ودعوات ومطالبات تعاد صياغتها لتناسب توقيت إصدارها؛ ومع ذلك، باتت معظم الاعتداءات الإسرائيليّة تمرّ من دون إدانة، لكأنّها باتت معتادة ومقبولة.
الهجمة الإسرائيليّة المتصاعدة على الأقصى ترتبط إلى حدّ بعيد بتبنّي الاحتلال لخطاب "المعبد" على المستويات السّياسيّة والأمنيّة والقانونيّة والدّينيّة، ولكنّ هذا التّبنّي ما كان له أن "يثمر" هذا التصاعد في الاعتداءات على الأقصى من دون بيئة حاضنة شكّلها تهالك الموقف الرّسمي العربي والإسلامي إلى حضيض امتزج فيه التّطبيع العلني مع الاحتلال والدّعوات الموجّهة إلى "السّلام" مع العدوّ من قبل شخصيّات رسميّة أو أخرى مقرّبة منها. ولعلّ العقبة الرّئيسة التي تعرقل مشاريع الاحتلال هي اصطدامه بالموقف الشعبي، حيث عبّر عن ذلك بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، بالقول إنّ "أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا بل الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرّض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز".
بالفعل، أيقن الاحتلال أنّ الموقف الشعبي هو ما يحصّن المسجد، ولذلك كثّف عام 2015 من استهداف العنصر الشعبي المدافع عن الأقصى في وجه اقتحامات المستوطنين والممارسات التي ترافق هذه الاقتحامات، ومنها محاولات أداء الصّلوات التلمودية في المسجد وعند أبوابه. فأصدرت شرطة الاحتلال في آب/أغسطس قائمة ضمّت أسماء حوالي 20 امرأة مقدسيّة منعتهنّ من دخول المسجد بالتزامن مع اقتحامات المستوطنين، ثمّ توسعت القائمة ليرتفع عدد الممنوعات من دخول الأقصى إلى حوالي 70. وتبع هذا الإجراء قرار لوزير جيش الاحتلال في أيلول/سبتمبر أشار إلى المرابطين والمرابطات كتنظيمين خارجين عن القانون، وصولاً إلى تشرين ثانٍ/نوفمبر 2015 مع قرار آخر صنّف الحركة الإسلامية – الجناح الشمالي كتنظيم خارج عن القانون، وأغلق المؤسّسات التابعة لها، وحظر نشاطاتها، وجرّم التعامل معها؛ وكان ذلك القرار استهدافًا واضحًا للرباط حيث إنّ الحركة كانت من أبرز الجهات العاملة على عمارة المسجد ورفده بالمصلّين والمرابطين عبر تنظيم حافلات من الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948. كذلك، شنّت سلطات الاحتلال حملة اعتقالات استهدفت كبار السنّ من المرابطين الذين يحرصون على البقاء في المسجد في فترة الاقتحامات الصّباحية التي يستغلّها المستوطنون بسبب انشغال الشباب في أعمالهم. وكانت الغاية من كلّ ذلك تقليص الوجود الإسلامي في المسجد، لا سيّما من يشكّلون "مصدر إزعاج" للمستوطنين.
لم يكن ثمّة شكّ في أنّ استهداف المرابطين محاولة حثيثة لإفراغ المسجد من المسلمين في وقت الاقتحامات الصباحيّة؛ وبمعنى آخر محاولة لفرض التّقسيم الزّمني للمسجد فعليًا عبر تكريس أمر واقع قد يليه تشريعه بنصّ قانوني في "الكنيست" فشلت محاولات فرضه سابقًا. هذه الهجمة لفرض التّقسيم الزّمني أدّت، ضمن أسباب أخرى، إلى اندلاع انتفاضة القدس، أو انتفاضة السّكاكين، في تشرين أوّل/أكتوبر 2015. توالت العمليّات، بوتيرة مختلفة ووفق القدرة على تخطّي إجراءات الاحتلال، وتميّزت عمومًا بالطّابع الفردي حيث كان التخطيط لعمليات الطعن أو إطلاق النار فرديًا في معظم الحالات، وكان استمرار العمليات دليلاً، ليس على عجز الإسرائيلي عن وقفها وحسب، بل على غياب الموقف الرسمي العربي والإسلامي الذي غالبًا ما يوحي للقاعدة الشعبية بأنّ ثمّة سعيًا للتعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية ووقفها، فيمتصّ غضبها.
ثمّ كانت عملية الجبّارين، في 14/7/2017، التي نفّذها ثلاثة فلسطينيين من الأراضي المحتلة عام 1948 وأدّت إلى مقتل اثنين من عناصر الاحتلال المتمركزين عند أبواب الأقصى، فتذرّعت سلطات الاحتلال بالعمليّة لتغلق المسجد وتمنع رفع أذان الجمعة والصّلاة فيه نحو ثلاثة أيّام، ولم تفتح الأبواب إلا بعد تركيب بوابات إلكترونيّة عندها لتفتيش المسلمين عند اجتيازها إلى المسجد. ظاهر الإجراء كان أمنيًّا، ولكن حقيقة وواقعًا فإنّ ذريعة المحافظة على الأمن كانت محاولة لتمرير إجراء يكرّس خرقًا واعتداءً جديدًا على الوضع التاريخي القائم، وفرضه كأمر واقع لا يتراجع الاحتلال عنه. وسلاح تشكيل الوقائع على الأرض ثمّ فرضها كحقائق هو أحد أساليب الاحتلال لتوسيع سطوته على الأراضي الفلسطينية المحتلة وانتزاع المزيد من التّنازلات، والمثال الأبرز هو سياقات سياسته الاستيطانيّة في الضّفّة الغربية المحتلّة حيث ينشئ المستوطنات ويتوسّع بها ليصل إلى حدّ لا يمكن معه "تهجير" المستوطنين من "أرضهم وبيوتهم"!
وعلى الرّغم من فداحة هذا الاعتداء إلّا أنّ الموقف الرسمي، على المستويين العربي والإسلامي، كان أكثر فداحة، حيث خرجت أصوات تبرّر للاحتلال "حقّه في المحافظة على أمنه" من دون الأخذ بالاعتبار حجم الاعتداء على هذا المقدّس الإسلامي وما له من مكانة بالنّسبة إلى المسلمين حول العالم. تمسّكت دولة الاحتلال بإجراءاتها متسلّحة بما بدا أنّه موقف مساند لموقفها، لكن ردّة الفعل الشّعبية التي تمثلت في هبّة باب الأسباط في القدس عند أبواب الأقصى، والتّظاهرات الشعبيّة المتضامنة التي خرجت في دول مختلفة حول العالم، وضعت سلطات الاحتلال في مأزق وفرضت عليها التّراجع. ومع محاولاتها حفظ ماء وجهها بتركيب كاميرات عوضًا عن البوّابات الإلكترونيّة أو إبقاء باب حطّة مقفلاً بعد اضطرارها إلى فتح باب الأسباط، كان الموقف الشّعبي يزداد صلابة ويفرض رفضه لتغيير الوضع القائم على الجهات الرّسمية لتتبنّاه وتقف خلفه، راضية به أو كارهة له. واللافت أنّ الصمت الرسمي الذي رافق الحراك الشعبي تحوّل صخبًا بعدما نجحت الإرادة الشعبيّة في إجبار الإسرائيلي على التّراجع، فنسبت جهات رسميّة النصر الذي تحقّق بصمود المقدسيّين ومقاومتهم إلى نفسها.
خسرت "إسرائيل" معركة البوابات، لكنّ ذلك لم ينهِ حربها على الأقصى، بل إنّها صعّدت من وتيرة التّهويد في المسجد، واستهداف الوجود الإسلامي فيه، فاستمرّت حملات الاعتقال ضدّ المصلّين في الأقصى وموظفي الأوقاف، وزادت حدّة الاقتحامات، وزادت وتيرة استهداف المنطقة الشرقية من المسجد ومقبرة باب الرحمة الملاصقة لباب الرحمة في السور الشرقي للأقصى، حيث تسعى كي تكون هذه المنطقة حديقة تلموديّة للمستوطنين؛ ومن يتصدّى اليوم للاعتداءات على مقبرة باب الرحمة موقف شعبي ومبادرات من المقدسيّين الذين يحرصون على منع الاحتلال من تنفيذ مخطّطاته في المقبرة، حتى لا تتحوّل إلى ما يشبه مقبرة مأمن الله الإسلامية في غرب القدس التي صادر الاحتلال أرضها وهدم قبورها وأقام عليها متحفًا تهويديًا باسم "متحف التّسامح". والأكثر بروزًا اليوم هو الاعتداءات على حراس الأقصى التي تصاعدت هذا الأسبوع بما يعكس إصرار الاحتلال على استهداف مكوّنات المسجد كافّة ومنع أيّ محاولة لحمايته من الهجمة التهويدية المتفاقمة.
يتابع الاحتلال حربه على الأقصى اليوم بسلاحه وعتاده، وبضعف الموقف الرّسمي العربي والإسلامي الذي بات يشكّل، في بعض منه، غطاء لهذه الحرب ونصيرًا لأصحابها عبر استعداء المقاومة، بما فيها المقاومة الشعبيّة، والتّصفيق للاحتلال وممارساته، وفصل القضيّة الفلسطينيّة عن المصالح الاقتصادية والعلاقات التجاريّة والأمنية والدبلوماسية مع دولة الاحتلال.
لذلك، وفي أشدّ حالات استهداف الاحتلال للأقصى، وما يحمله من رمزيّة في القضيّة الفلسطينيّة، تتنامى صفقات التّطبيع مع الاحتلال وفي مقدّمتها الأردن واتّفاقية استيراد الغاز الذي تسرقه دولة الاحتلال من الفلسطينيين، على الرغم من الاستهداف المتصاعد من قبل الاحتلال لعمل موظفي الأوقاف في الأقصى التابعين لوزارة الأوقاف الأردنية والاعتداء على الوصاية الأردنية على المسجد؛ وكذلك اتّفاقية لتصدير الغاز من دولة الاحتلال إلى مصر ضمن صفقة قال نتنياهو إنّها "يوم عيد". وبدلاً من الضغط على الاحتلال ليوقف اعتداءاته وجرائمه يصار إلى تطوير العلاقات معه بما يعزّز قبضته على موارد المنطقة ويعزّز التبعية السياسة للاحتلال والتّساوق مع مشاريعه في المنطقة، فتبدو هذه الصفقات مكافأة له على اعتداءاته وارتكاباته في الأقصى، والقدس، وغزّة، وكلّ فلسطين.
مع استذكار إحراق الأقصى وما أعقبه من ردّة فعل رسميّة تجلّت في تشكيل منظمة التعاون، يمكن القول إنّ الموقف الرسمي وقتها كان لامتصاص الغضب الشعبي والحؤول دون تفجّره. أمّا اليوم، فإن الموقف الرسمي لا يُذكر إلّا ليوصف بالضّعيف والعاجز، أو المشغول والمتشاغل، وفي بعض الحالات بالمتواطئ والمتآمر على الأقصى والقضيّة الفلسطينيّة برمّتها. ويمكن القول إنّ الموقف الشعبي، في فلسطين وخارجها، هو ما يمكن أن يعوّل عليه لعرقلة مشاريع التّهويد وكبح وتيرتها وسعارها، وهو موقف أثمر في هبّة باب الأسباط نموذج مقاومة ناجحًا، ونشهده اليوم في الالتفاف الشّعبي حول الخان الأحمر والتّصدي للحرب الإسرائيلية على التّجمعات البدويّة في الضفة الغربية المحتلّة، وفي الطّائرات الورقية ومسيرات العودة في قطاع غزّة المستمرّة منذ آخر آذار/مارس 2018، وفي الرّفض الشعبي الأردني للبوّابات الإلكترونيّة في تموز/يوليو 2017 ولإعلان ترمب القدس عاصمة لدولة الاحتلال في كانون أول/ديسمبر 2017، ولاتّفاقية الغاز والتّطبيع الذي سيفرض على الأردنيّين قسرًا.
إنّ مواجهة الحرب الإسرائيليّة على الأقصى جزء من مواجهة المشروع الاستيطاني كلّه، وفي ظلّ غياب الانخراط الرّسمي الحقيقي في هذه المواجهة، على المستويين العربي والإسلامي، يبقى الموقف الشّعبي خطّ الدّفاع الأوّل عن المسجد لمنع الاحتلال من تسجيل مكاسب جديدة أو فرض مزيد من التّغيير في الوضع التّاريخي القائم، ولمنع الحكومات من المزيد من الانسياق وراء مصالح الاحتلال والتّطبيع معه تمهيدًا لانهيار المنظومة القائمة على تهويد الأقصى والمشارِكة في ذلك.