أشواق محبٍّ بعيد

تاريخ الإضافة الجمعة 3 أيار 2019 - 4:48 م    عدد الزيارات 4493    التعليقات 0     القسم تدوينات

        


علي ابراهيم

 باحث في مؤسسة القدس الدولية

يستيقظ الفجر على عتبات حجارتها العتيقة، تعانق أشعته الدافئة الحانية الأزقة والحارات، ويصبغ بكل حب ورأفة ساحات المدينة وأسواقها، وتبدأ الحياة تأخذ طابعًا مختلفًا مع هذا الزائر الجميل، فمهما تكررت زياراته يظل لرمضان في القدس ألق خاص، وأجواء لا مثيل لها، أرقبها وأنا البعيد عنها في الجسد، القريب منها ومن مسجدها في الروح والوجدان... تتحضر القدس لهذا الضيف الجميل جيدًا، وتتهيأ ككل عامٍ للقائه والاحتفاء به، فتزدان شوارعها بأنواع الزينة الملونة، وبمصابيح صغيرة تنير بأنوار بهيجة تعلق على الشرفات وأبواب المحال، ويظل للفانوس مهما تطورت التقنيات بهجة ومكان، وهو بين أيدي الأطفال يتأرجح وهم يتقافزون مهللين فرحين، ولا يقف الاستعداد عند أزقة القدس وشوارعها فقط، بل ينسحب إلى مسجدها الأغر، فرمضان في الأقصى له نكهة لا يعرفها إلا من ذاقها.


تتفتح النفوس تواقة لشهر العبادة والصيام، ويحيي أهل القدس في كل عام عادات شهر رمضان، وكأن الشهر يحل ويأتي معه للناس بتلك المباهج والمسرات الكثيرة، حتى ليظن المرء أن حلول رمضان هو عيدٌ بحد ذاته، تمتزج فيه العبادة مع التقاليد والعادات، ويتحول الصيام مع جماليات المدينة والأقصى، إلى طقس لا يمكن أن يكون إلا في المدن المقدسة، بركة وقت ومكان، وسمو نفس ورفعة روح، وتتقارب القلوب وتتعلق بالرحمن، ويعمّ شذى هذه الروحانيات، حتى تكاد تصل إليّ، وأنا البعيد عنها المتشوق لها.


لا مثيل لشهر رمضان في مدننا الإسلامية العتيقة، أسواقها القديمة، ونداءات الباعة وأهازيجهم، أصوات الأناشيد تعلو هنا وهناك، أطعمة رمضان المختلفة والمميزة، فكل مدينة تختزن بين جنباتها تقاليد آسرة، فكيف وهي القدس عروس المدائن ودرة بلاد الشام، ومهوى الأفئدة والقلوب، كم هي جميلة أنواع الخبز والكعك والعصائر، وتلك الحلويات التي يختص بها الشهر، وتتحول أسواق القدس إلى ساحات يتبارى فيها الباعة في لوحة بديعة الجمال، من ألوان وأشكال ونداءات، ليكتمل المشهد بلوحة آسرة لا مثيل لها.


وفي القلب من القدس ينبض الأقصى ويرفل بعبّاده ومعتكفيه، ويتزين لاستقبال المصلين في هذه الليالي المباركة، حتى تغص أرجاؤه بالمصلين والمرابطين، فالأقصى ليس مسجدًا فقط، بل هو الموئل والملجأ، هو ميدان التعلم والدراسة، تعلو في مصلياته أصوات البرّرة، يتحدون بحناجرهم تلك الإرادة الخبيثة المتربصة بالمسجد، وترى النساء والأطفال يعمرون جنباته بكل شغفٍ وحب، وفي الأقصى يتجمع المقدسيون لبركة الإفطار، وهم في انتظار الصلاة إلى الصلاة، ومع أذان عشاء ليالي رمضان، يغص المسجد بالآلاف في صلاة التراويح، ويزدان ببهاء لا مثيل له، فهو بأهله وأحبائه أقوى، وأمام عدوه أكثر صمودًا وبأسًا.


هذه مشاهدات ومشاعر محبٍ بعيد، يرنو للقاء مع هذه الحبيبة الآسرة، والبعد مضن والسفر غير ممكن، فيسلي نفسه التواقة بهذه الخواطر المبثوثة... ولكننا وفي شهر الخير والبركة، وأمام هده المشاهد والشواهد، علينا أن نحول هذه المشاعر إلى عمل ومبادرة، ونكون ممن يهدي للأقصى وعماره ما نستطيعه ونقدر عليه، فلا يحلو الشهر إلا معهم، وهو ليس عونًا لنا إليهم، أو فضلًا منّا عليهم، بل هو جزءٌ من الواجب مع الصامدين الثابتين المباركين، ودواءٌ يسكن قليلًا تلك المشاعر الفياضة، ويحيي في النفس أننا ما ذهبنا للأقصى والقدس، ولكننا سنترك بصمةً صغيرة في مشروع عظيم جليل، وكنا لإخواننا عونًا وسندا، كما كانوا درع الأقصى وحماته.


وعلى أمل لقاءٍ قريب، يظل الشوق حادينا ومرشدنا...

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



السابق

كيف نشارك في مواجهة التّطبيع؟

التالي

تحدّي المحافظة على نصر باب الرّحمة في شهر رمضان

مقالات متعلّقة

علي ابراهيم

عام من "الطوفان" وما شجن في النفس والعالم!

الثلاثاء 8 تشرين الأول 2024 - 10:54 م

لو سألنا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أيَّ خبير إستراتيجي أو محلل سياسي، عن التغييرات الكبرى في العالم، والصراعات القادمة فيه، لتحدث عن ملفات عديدة، ابتداء بالصراع الروسي والأوكراني، وتحجيم ا… تتمة »

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »