نفش العهن في الحديث عن صفقة القرن
السبت 1 شباط 2020 - 2:17 م 2941 0 تدوينات |
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدولية
وممّا أورده المؤرخ الكبير أبو الفضل محمد بن النهروان من الأحداث التي جرت في منطقتنا العربية، في العقد الأول من الألفية الثالثة، تلك الخطة الأمريكية التي أرادت إنهاء القضية الفلسطينية، وروجت لها على أنها الحل الشامل لمشاكل المنطقة، فكانت "صفقة القرن" ذروة قرارات أمريكية عديدة استهدفت القضية الفلسطينية، وفي هذا النص التأريخي الذي يأتينا من المستقبل، نرى كيف عالج مؤرخ قادم بعد مئة عام، هذه القضية، وكيف سجّل انطباعاته، في زمن عادت الكتابة التاريخية فيه على نسق المؤرخين الأوائل، وننقل بعض ما نقله ابن النهروان في كتابه الحافل "الضوء اللامع في التاريخ الجامع"، وهو سجلّ عظيم بأحداث المنطقة وتطورات الأمور وأخبار الدول وتقلّبات الأحوال.
يقول ابن النهروان:
ومضت على القدس في ذلك العهد سنين عددًا، والمدينة قد سُربِلت في الأغلال، ورانت على كاهلها الأثقال، وعانت كلّ جورٍ وضيم، وكتم عليها الاحتلال كالعهن من الغيم، وفي قلب تلك المعاناة كان "التهويد"، فقد كان المقدسيّون يعانون التشريد، فالمحتلّ في كل يومٍ يهدم لهم منزلاً، ويمنع عنهم موئلاً، ويحرمهم من السكن في المدينة، لتكون له الغلبة في السكان، والسيطرة على الحيّز الجغرافي والمكان، وفي المقابل يُطلق لمستوطنيه العنان، في الاعتداء والقتل والأذى وسوم الآخرين الهوان، وفوق هذه العذابات العديدة، والتّرهيبات الشديدة، وضع المحتلُ المسجدَ الأقصى في مهدافه، وجعل السيطرة والتحكم فيه على رأس أهدافه، وبدأت أذرعه التهويدية بالاعتداء على قدسيته، من الاقتحامات اليومية إلى محاولة السيطرة على أجزائه وأركانه.
ومع ما في هذا الوصف من ألم، وإرهاب يلقاه الفلسطينيون، والعرب سلكوا مذاهب قددًا، ومنهم من جنحوا للتّطبيع، وعن قضيتهم بالغوا في التفريط والتشنيع، ولكن أهل القدس ظلوا على جراحهم صابرين، ولعدوّهم قاهرين، وفي مسجدهم مرابطين، انتصروا في هباتهم الميمونة، واستطاعوا بتلاحمهم أن يكبحوا الاحتلال وجنونه، وآخرها في هبة باب الرحمة، إذ عمروا المصلى رغمًا عن الاحتلال وجنوده، ومن ثم كان الفجر العظيم آخر أساليب الرباط، فعمروا المسجد بالآلاف فجر كل جمعة.
ومع ما يلقاه الاحتلال من دعمٍ وتأييد، وصل إلى الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية رئيسٌ من نوعٍ جديد، أعلن الانحياز إلى الاحتلال علانية، ومنذ حملته الانتخابية وعد بالحل النهائي، وإنهاء تامٍ للشأن الفلسطيني بمن معه من الزبانية، وهو مع ذلك حريصٌ على أمن "إسرائيل"، قدّم في سبيلها كل برهان ودليل، ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض أخذ يتابع الموضوع، واختار فريقه للمضي بالمشروع، واختار لها اسم "الصفقة"، فهو رجل أعمال لغته العقارات والأموال، وأراد أن يُظهر نفسه رجل أفعالٍ لا رئيس أقوال.
وبدأ التحضير لـ "صفقة القرن"، وسبق الإعلان عنها محاولة ترمب حل القضايا العالقة، فهي في نظره أمور إشكالية شبه نافقة، فقطع الأموال عن الأونروا، لينهي برأيه ملف اللاجئين، ويدعهم في البلاد المحيطة بفلسطين مقيمين، ويجعلهم ورقة ضغط وإغراء للاهثين، ولكن المنظمة استطاعت الاستمرار، وتغلبت عن نقص الأموال بشيء من الإعسار. ومن ثم أعلن قراره الكبير، واعترف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل"، وأكد أنه سينقل سفارته بما لديه من عجل، ووقع إعلانه المأفون بلا وجل، وإلى جانبه وقف نتنياهو مبتسمًا رغم ما في نفسه من العلل، وتتابعت قرارات فريق الأشرار، ولا تراهم إلا من بلدٍ إلى آخر يقطعون الفيافي والأقفار، ويزورون محور الاعتدال والانهيار، حتى أضحى صهره كوشنير محضن الأسرار، حضروا مؤتمرًا في المنامة، ولكنهم ما حصدوا منه إلا الخيبات والندامة.
ومع تأجيل إطلاق الصفقة مرارًا، واقتراب انتخابات الرئاسة وخوفه فيها من الخسارة، أراد ترامب الإعلان عن خطته المكارة، وفي الشهر الأول من عام 2020، والعالم مشغول بكوارث الأوبئة في الصين، كان إعلان ترامب المشين، فكشفت عن بنود صفقته بحضور الصهاينة، فقد كان رفض الفلسطينيين وعدم مشاركتهم لا يحتاج إلى بينة، فسقط وصف الصفقة، وأكدت ما سربت منها بأنها تصفية، وتضمنت بنودًا تسعة، أعطت كل ما يريده الاحتلال، ولم تبق للفلسطينيين سوى أطلال، ضمت بها مستوطنات الضفة، وابتلعت الغور بلا شرف ولا عفة، واشترطت للفلسطينيين دولة لا حماية، مقطعة الأوصال يربطها طرق وأنفاق، وكأن المشكلة مع الاحتلال هي مشكلة طرق وتنقل.
وفوق ذلك كله، اشترطت الصفقة تسليم سلاح المقاومة، وجعلته بندًا ما دونه مساومة، ولكن المرابطين لهم كلمة أخرى، علمتهم إياها الأزمنة الماضية، فمن تخلّى عن الكفاح، وارتضى بالعيش تحت المحتل بلا سلاح، فقد قضى على وجوده، وأنهى للشعب الفلسطينيّ أمله ورمز صموده، فقالوا لهم –مرارًا- أرواحنا من دونه هينة، ورعبكم من صواريخنا عينة، وهي طريق التحرير وإنا والله لنراه بينًا.
وقد راجعت مواقف الفلسطينيين حينها، فما كانوا إلا على قلب رجلٍ واحد، ثابتين على الرفض متمسكين بالأرض، وقد كان الرفض في الأمة جليًا، وارتفعت أصواتهم من كل حرٍ وشريف، وكان رفض التغول الترمبي موقف الحصيف المنيف، وأشدهم التزامًا وفهمًا، المقاومون القابضون على البنادق، توعدوا الاحتلال بالبوار، وكما عرقلوا الصفقة بمسيرات العودة الأبية، سيعرقلونها بفنونٍ من المقاومة هجومية ودفاعية، وبصمودٍ امتد من باب الرحمة إلى الشجاعية، وبأنفاسٍ تلهج صمودًا، وبالمقاومة تمجيدًا، وبالتمسك بالحق التزامًا وتأييدًا، والأمة من خلفهم واقفة، ربما لا يمتلكون غير الدعاء آسفة، ولكن لهم أنفاسًا وثابة، سيستعيدون المبادرة، ويعيدون على الاحتلال وترمب الدائرة، فهم كقسورة سيكسر قيوده الآسرة، سيعودون سيلاّ جارفًا، وطوفانًا هاتفًا، يعيدون الحق، وسنبيّن ذلك في ثنايا الكتاب، والله الموفق وإليه حسن مآب.