ما الذي خسرناه في الأقصى منذ إعادة فتحه؟
الجمعة 26 حزيران 2020 - 11:24 ص 2413 0 مقالات |
زياد ابحيص
باحث متخصص في شؤون القدسمر 26 يوماً منذ أعيد فتح الأقصى في يوم الأحد 31-5-2020، وذلك بعد 69 يوماً من إغلاقه في أطول فترة إغلاقٍ له منذ الحروب الصليبية. من اليوم الأول لإعادة فتحه بدا واضحاً أن الاحتلال يريد فرض قواعد جديدة لفتحه، وهو يستكشف كل المساحات الممكنة التي يستطيع من خلالها تحقيق ذلك، ليكرس في الأذهان بأن ما بعد كورونا ليس كما قبله، وليتخذ من الإغلاق الطويل منصة انطلاقٍ نحو تغييراتٍ دائمة في الوضع القائم في الأقصى، تعيد له ما خسره على طريق التقسيم الزماني والمكاني أمام الهبات الشعبية في 2017 و2019.
1- تفريغ مسار الاقتحامات قبل دخول المقتحمين: وكانت شرطة الاحتلال في 2010 وما بعدها تُجرّم التكبير في وجه المقتحمين وتعتقل المكبرين وتبعدهم عن الأقصى، أما بعد كورونا فقد بدأت تمر على مسار الاقتحامات لتفريغه قبل دخول المقتحمين، وكل من يرفض المغادرة يُعتقل ويُبعد عن الأقصى. ويمكن القول إنها تحاول بذلك إحياء صيغةٍ من التقسيم المكاني ولو كانت مؤقتة، وهي ماضية في ذلك على مدى 26 يوماً خلت.
2- منع التوثيق والتصوير: وهو اتجاه قديم تعزز في شهر 10-2019 بمنع حراس المسجد الأقصى من الاقتراب من الجماعات المقتحمة، وتعزز أكثر بعد إعادة فتح الأقصى بملاحقة عدد ممن يوثقون الاقتحامات بدءاً بحراس الأقصى وصولاً إلى المصلين، واعتبارها "تهمة" تستوجب الاعتقال والإبعاد عن الأقصى.
3- أداء الطقوس التوراتية: منع توثيق الاقتحامات وتصويرها يستهدف الوصول إلى هذه النقطة، أن تؤدي الجماعات الصهيونية المقتحمة الطقوس التوراتية بكاملها وبحرية، فهي بنظرها تقتحم مقدساً لتؤدي فيه طقوساً وليس للزيارة فقط، والعائق الأساس أمام ذلك هو حضور الصورة وما يمكن أن ينشأ عنها من رد فعل فلسطيني وإسلامي غاضب. منذ إعادة فتح الأقصى ازداد أداء الطقوس والصلوات العلنية، وبات المتطرفون يدفعون أطفالهم لأداء الطقوس الكاملة التي لا يُسمح للكبار بأدائها، مثل الانبطاح الكامل على أرض الأقصى –أو ما يعرف بالسجود الملحمي، كما أن مدرسة جبل الهيكل الدينية التي تتخذ من الأقصى مقراً لها باتت تكثف جولاتها التعليمية في الأقصى بشكل شبه يومي، لتعلم طلابها في الأقصى التوراة والطقوس وما يحتاجه "كهنة الهيكل".
4- محطة البائكة الغربية: تتطلع جماعات الهيكل إلى فرض نقاطٍ معتمدة لها خلال اقتحاماتها اليومية، وهي لذلك باتت تتخذ من دَرج البائكة الغربية لصحن الصخرة "نقطة تجمع" يومية لها، كما أنها عادت لإثارة فكرة "حق" أفرادها بشرب المياه من أسبلة الأقصى، وعينها على تحويل سبيل قايتباي إلى محطة أخرى لها، ولذلك أدخلت متطرفة زجاجة نبيذ مملوءة بالماء إلى الأقصى خلال الأسبوع الماضي، لتحاول إثارة هذا "المطلب".
5- حملة الإبعادات: على مدى 26 يوماً من فتح الأقصى أبعدت شرطة الاحتلال عنه أكثر من 52 مقدسياً ومقدسية، وهذه الإبعادات كما يبدو تستعين بقائمة مسبقة الإعداد. حملات الإبعادات السابقة كانت تأتي عقب عدوان يقود إلى احتكاك أو مواجهة أو هبة، أما اليوم فحملة الإبعادات هذه بدأت قبل فتح الأقصى وما تزال تتواصل، وكأنها تمهّد الميدان لما هو قادم.
6- إعادة تفريغ مصلى باب الرحمة والساحة الشرقية: وهو شوكة في حلق الاحتلال لم يتمكن من ابتلاعها، إذ أن فتحه الشعبي في هبة باب الرحمة في شهر 2-2019 أفشل مسعى قضمه لفرض التقسيم المكاني، ويستهدف المحتل اليوم كل من يتواجد في باب الرحمة بالضرب والاعتقال والإبعاد، إذ يرى في الصلاة في مصلى باب الرحمة "جريمة" لا تتطلب الإبعاد فقط، بل وردع صاحبها ومن يفكر بتقليده بالضرب والتنكيل.
7- فرض التعريف اليهودي للمقدس: حتى إن غادرتَ مسار الاقتحامات، وذهبت إلى صحن الصخرة، ففي حضور المقتحمين عليك أن "تحترم" تعريفهم للمقدس. في اليهودية تحضر ثنائية المقدس مقابل المدنس، فالعمل التعبدي الطاهر نقيض العمل الدنيوي النجس، وإتيان الأفعال الدنيوية في موضع الطهارة تدنيس، فلا كرة قدم ولا طعام في المقدس؛ بخلاف التعريف الإسلامي الذي يرى في المسجد مركز حياة، وفي كل الأفعال سمواً وعبادة إن حضرت فيها النية وصحّ المقصد منها. خلال الاقتحامات بات المحتل يمنع الطعام وكرة القدم، كي لا تمس التعريف الديني الذي يتبناه أولئك المقتحمون، فباتوا هم مرجع التعريف إن حضروا، وهذا تتويج لمسار طويل لفرض التعريف اليهودي للمقدس، كان اقتحام الأقصى في عيد الأضحى الماضي أهم محطاته.
منذ إعادة فتح الأقصى شهد الأقصى تقدماً صهيونياً على سبعة اتجاهات، هذا مع الاقتصاد في العد، إذ أن بعض نقاط التقدم تلك مركب كما مرّ معنا، وما هو ما يؤكد وجود خطة مسبقة لتغيير الوقائع في الأقصى، ووجود هدفٍ تبحث عنه تلك التغييرات، فهي لن تأتي بهذا التنوع والكثافة لو أنها لم تكن تتطلع إلى تحقيق هدف مرسوم، والهدف الأقرب للإدراك هو إعادة تعريف الوضع القائم في الأقصى كجزء غير معلن من خطوة الاستيلاء على الأغوار وأراضي الضفة الغربية.
تضاف إلى ذلك أربع خسارات مركزية تمت خلال إغلاق الأقصى باسم جائحة كورونا وسبق التوقف عندها في محطة سابقة: وأولاها إضفاء المشروعية على دور المحتل باعتباره طرفاً أصيلاً في إدارة الأقصى وذلك باتفاقية مع الخارجية الأردنية حول ترتيبات الفتح والإغلاق، والثانية تحكمه بقرار الفتح والإغلاق تحت إجراءات الحكومة وضمن ما يعلنه مجلس الأمن القومي من احترازات، أما الخسارة الثالثة فكانت إغلاق 6 أبواب للأقصى أمام موظفي الأوقاف طوال 69 يوماً بما فيها باب المجلس، ما شكل مناورة عملية طويلة لعزل مقر الأوقاف عن الأقصى لأول مرة منذ احتلاله، والرابعة ما انتهت إليه محاولات جماعات الهيكل لاقتحام الأقصى خلال رمضان؛ فرغم عدم اقتحامها حصلت على قرار من المحكمة العليا الصهيونية بتكافؤ حق اليهود والمسلمين بدخول الأقصى وهو ما ترجمته شرطة الاحتلال يوم الأحد 31-5 بتمكين المتطرفين من الاقتحامات بعد ساعات قليلة من دخول المصلين المسلمين، لتصنع مشهد "الدخول المتوازي".
في المحصلة،
منذ شهر 3-2020 فرض الاحتلال علينا 11 خسارة موصوفةً وواضحة في الأقصى، جزء كبير منها تحقق له بسبب التيه والتردد في التعامل مع الوباء في الأقصى، واعتباره مقدّماً على سرطان الاحتلال ومنفصلاً عنه؛ إلا أن هذه الخسارات ليست نهائية ودائمة، وعودة الفعل الشعبي إلى الواجهة كفيلة بشطب كثير من نقاط تقدم المحتل الصغيرة هذه، بل كفيلة بشطب ما قبلها، وكفيلة بإشعال بؤرة مواجهة فعالة لقرار الضم وصفقة القرن بأسرها تبدأ من الأقصى.
وحصول مثل هذه المواجهة الشعبية الفاعلة يتطلب أولاً بناء موقف رافض وصريح وواضح من القيادات الدينية والوطنية، لا يُترك فيه فضيلة الشيخ عكرمة صبري وحيداً في المقدمة، ومن ثم يمكن التعويل على انعقاد إجماعٍ شعبي حقيقي خلف هذا الموقف حين يمثل الثوابت ويتصدى بصدقٍ للأخطار المحدقة، وبعدها يمكن لهذا الإجماع أن يتحول إلى قوة متحركة تفشل رهانات المحتل.