فلسطين بين احتلالين
الجمعة 17 كانون الأول 2021 - 5:22 م 1460 0 مقالات |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدوليةكان الاحتلال البريطاني لفلسطين من أخطر الحقبات في تاريخها وفي تاريخ المنطقة عمومًا، بما هو منظومة استعمارية أسّست للوجود الصهيوني ولقيام دولة الاحتلال على أنقاض القرى التي دمّرتها، وجثث الفلسطينيين الذين قتلتهم عصاباتها. ولم يكن إعلان قيام "دولة إسرائيل" في أيار/مايو 1948 إعلانًا لانتهاء الاحتلال البريطاني لفلسطين وإنّما كان امتدادًا له بالأساليب والسياسات ذاتها التي استعملها الإنجليز قبل خروج قواتهم العسكرية من فلسطين، وإن حمل وجهًا آخر، واسمًا جديدًا.
يجثم الاحتلال الإسرائيلي على صدر القدس منذ عام 1948، وكان الصهاينة اجتهدوا في أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين لتكون القدس محور مشروعهم، ودولتهم التي سيعلنون قيامها بعدما مهّد لهم البريطانيون الطريق لذلك. حمل الاحتلال الإسرائيلي لواء تهويد القدس الذي بدأه سلفهم من البريطانيين، وهم لا يدّخرون جهدًا من أجل أن يجعلوا القدس يهودية صرفة، وإن احتاجوا في ذلك إلى تغيير التاريخ والجغرافيا. وهكذا؛ فإنّ الرواية السياسية التي يروّج لها قادة الاحتلال عن القدس والأقصى تجد جذورها أو سندًا لها في الروايات التلمودية التي تزعم أنّ القدس كانت لليهود، وأنّهم كان لهم "معبد" مكان المسجد.
وقد تمكّن الصهاينة من تعزيز الوجود اليهودي في القدس إبان الاحتلال البريطاني عبر موجات متتالية من الهجرة صحبتها حركة نشطة لإقامة مستوطنات لهم في القدس وضواحيها. ولا تزال المحاولات قائمة إلى اليوم لجعل المدينة خالية من أي وجود عربي فلسطيني، أو على الأقل تخفيض هذا الوجود إلى أدنى حدّ ممكن. ولعلّ ثلاثية الاستيطان، والهدم، وسحب الهويات المقدسية (أو بطاقات الإقامة الزرقاء) من أبرز تجلّيات هذه السياسة التي تهدف إلى إفراغ القدس من أهلها.
لم تعد المجازر الإسرائيليّة في القدس تحديدًا قتلاً جماعيًا، ولكنّها باتت مجازر "ناعمة"، تقوم على مساعٍ حثيثة لتهجير أحياء بأكملها، مثل حي الشيخ جراح وأحياء سلوان، وعمليات هدم واسعة بذريعة عدم الترخيص، وعقوبات جماعية تفرضها على أهالي قرية بكاملها في حال تنفيذ أحد المقدسيين فيها عملية فدائية ضدّ الاحتلال ومستوطنيه. كذلك ورث الاحتلال الإسرائيلي عن سلفه البريطاني سياسة مصادرة الأراضي من الفلسطينيين "من أجل المصلحة العامّة"، وهي مصلحة تعمّ المستوطنين الدّخلاء على الأرض، وعلى القدس، مثلما كان الاحتلال البريطاني يفسّر المصلحة العامة بأنّها مصلحة اليهود القادمين إلى القدس من أقصى أصقاع الأرض، ليؤسّسوا لهم وطنًا قوميًا على حساب أهل الأرض. وعلى الصّعيد المتعلق بالأقصى، فإنّ مخططات التهويد لا تنتهي بدءًا من مشاريع قوانين تقترح تقسيمه زمنيًا ومكانيًا، ومحاولاتٍ للتقسيم بحكم الأمر الواقع، ومحاولات حثيثة لإفراغه من أهله وعمّاره، والاعتداء على موظفي الأوقاف فيه من حراس وسدنة وغيرهم، وغير ذلك من الاعتداءات.
وإذا كان هذا هو المشهد في القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، الذي لعبت بريطانيا الدور الأبرز في فتح أبواب فلسطين له، فإنّ المشهد لا يختلف في سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة: قتل واعتقالات ومصادرة أراضٍ، وتهويد، وهدم وتشريد، وحصار، وقائمة من الجرائم تطول ولا يمكن حصرها.
ومع كلّ الجرائم الإسرائيليّة التي ترتكبها "إسرائيل" بحقّ الفلسطينيين، وبحقّ فلسطين، أرضًا ومقدّسات، فإنّ بريطانيا لا تزال تقف إلى جانب الاحتلال وفي صفّه، وعلى النقيض من الفلسطينيين وحقّهم في أرضهم، بل وفي مقاومة الاحتلال لاستعادتها.
ومن مصاديق ذلك، مصادقة مجلس العموم البريطاني في 2021/11/24 على قرار تصنيف حركة "حماس" بالكامل على قوائم "المنظمات الإرهابية"، وهو أصبح ساري المفعول في 2021/11/26، وكانت دفعت به قدمًا وزيرة الداخلية البريطانية المتصهينة بريتي باتيل. ولا شك في أنّ هذا القرار ستكون له انعكاساته، لا سيّما وأنّه مقرون بتشديد العقوبات وبتجريم تأييد حماس ودعمها.
وقبل ذلك، في عام 2017، رفضت حكومة تيريزا ماي، في نيسان/أبريل الاعتذار عن وعد بلفور، وقالت في بيان إنّ وعد بلفور موضوع تاريخي ولا نية لها بالاعتذار عنه، بل أعربت عن الفخر بدور بريطانيا في إنشاء "دولة إسرائيل". وفي تشرين الأول/أكتوبر من العام ذاته، قالت تيريزا ماي في الجلسة الأسبوعية أمام البرلمان إنّها تفتخر بدور بريطانيا في إقامة "دولة إسرائيل"، فيما كانت أعلنت في عام 2016 عن عزم حكومتها الاحتفال بمئوية وعد بلفور إذ إنّ "هذه الرسالة هي واحدة من الأهم في التاريخ"، فهي "تظهر الدور الحيوي الذي قامت به بريطانيا في إقامة وطن للشعب اليهودي". وهو الأمر الذي كررته في 2017/11/2 في احتفال كبير في لندن بمئوية وعد بلفور حضره رئيس حكومة الاحتلال حينذاك بنيامين نتنياهو.
إنّ الاحتلال البريطاني لفلسطين لم ينتهِ بخروج القوّات العسكريّة البريطانية عام 1948، وصحيح أنّ بريطانيا لم تكن الوحيدة في مشروع تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود حيث كان لكلّ الدول الاستعمارية يدٌ في هذا المشروع، إلّا أنّ الدور البريطاني كان الأكبر والأبرز والأكثر مباشرة وفعاليّة وظهورًا على الأرض، وهو لا يزال قائمًا إلى اليوم دعمًا ماليًا وعسكريًا ودبلوماسيًا، رغم محاولات "موازنته" بمجاملات إبداء الحرص على إقامة دولة فلسطينية.