مبادرة كوستاريكا.. وعروبة القدس
في مبادرةٍ أصابت "إسرائيل" في مقتل؛ قرّرت دولة كوستاريكا في 17 أغسطس/آب الحالي إعادة سفارتها لدى "إسرائيل" من القدس إلى تل أبيب بعد مرور نحو 24 عاماً. وكانت كوستاريكا ثم السلفادور قد أقدمتا على نقل سفارتيهما إلى القدس عام 1982م بما يتنافى مع قرارات الشرعية الدولية، خاصة قرارات مجلس الأمن.
وكان الرئيس أوسكار أرياس رئيس كوستاريكا الجديد صادقاً مع نفسه ومع شعبه ومع مصالح دولته وهو يؤكّد في كلمته بمناسبة مرور الأيام المائة الأولى من ولايته أنّه حان الوقت لتصحيح خطأ تاريخيّ يلحق ببلاده ضرراً على المستوى الدولي ويحرِمها من أيّ شكلٍ للصداقة مع العالم العربي، وفي الوقت الذي أعربت فيه حكومة "إسرائيل" عن أسفها للقرار فقد رحّبت الحكومة الفلسطينية وعدد من الدول العربية بالمبادرة معتبرة أنها خطوة شجاعة، وفي الوقت نفسه علّقت الأمل على أنْ تحذو السلفادور حذو مبادرة كوستاريكا الحالية.
* * *
وهنا لا تكفي التمنّيات العربية (الشفهية) بأنْ تحذو السلفادور حذوَ كوستاريكا أو أنْ تظلّ سفارات نحو 70 دولة لدى "إسرائيل" في تل أبيب ولا تفكّر في بناء سفارة لها في القدس كما فعلت الولايات المتحدة منذ سنوات استجابةً لقرار الكونجرس الأمريكي في أكتوبر/تشرين الأول 1995، ونظراً لخطورة الإقدام الأمريكي على عملية نقل سفارتها أتاح القرار للرئيس الأمريكي تأجيل عملية نقل السفارة كلّ ستة أشهر حتى يتهيأ الوقت المناسب.
أقول لا تكفي التمنّيات العربية (الشفهية) فالأمر خطير وجلل لأنّ "إسرائيل" لن تسكتَ أو تصمت وربما لا تمارس ضغطاً على كوستاريكا لمحاولة إثنائها عن قرار نقل سفارتها بل نتوقع أنْ تلجأ "إسرائيل" إلى دولٍ أخرى وتعقد معها صفقات مشبوهة مقابل نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس. ويكفي التذكير بما فعلته "إسرائيل" مع حكومة كوستاريكا نفسها قبيل وبعد نقل سفارتها إلى القدس إذ استغلت "إسرائيل" الصراعات بين دول أمريكا الوسطى وحاجة كوستاريكا إلى التسليح وعقدت صفقة مع رئيسها الأسبق لويس البرتو مونجي عام 1982 لتسليح الحرس المدني وتدريب عددٍ من وحداته في "إسرائيل" ووقّع الاتفاق العسكري وقتها أرييل شارون وكان حينها وزيراً للحرب. ولم يتردّد ألبرتو مونجي رئيس كوستاريكا آنذاك في ردّ الجميل إلى "إسرائيل" بزيارتها عام 1985 وألقى كلمة أمام الكنسيت أعلن فيها رفضه لأيّ مشروعٍ لتدويل القدس يستهدف خدمة مصالح سياسية عربية!.
ولا شكّ أنّ هذه الخلفية التاريخية للحدث الذي واكب نقل سفارة كوستاريكا من تل أبيب إلى القدس يوضّح بجلاءٍ المخطط (الإسرائيلي) لكسب أصعب المعارك الدبلوماسية منذ قيامها -في غفلةٍ من الزمن- حيث حظيت "إسرائيل" وقتها (1948) باعترافاتٍ دولية من جانب الدول الكبرى التي دعمت قيام الدولة الصهيونية على أرض فلسطين بينما لا تستطيع تلك الدول حالياً الإفصاح بالاعتراف بالقدس الموحّدة عاصمة لـ"إسرائيل" إلا بالجلوس على مائدة المفاوضات مع الفلسطينيين.
* * *
أياً كان الأمر فقد أقدم الرئيس أوسكار أرياس رئيس كوستاريكا الحالي على تصحيح هذا الخطأ التاريخي -على حدّ تعبيره- من منطلق إيمانه بالسلام العادل مبدأً وبالحقوق المشروعة منهجاً ولا عجب فهو حائز على جائزة نوبل للسلام.
وأخيراً نكرّر مرة أخرى أنّ التمنيات العربية (الشفهية) بعودة القدس عربية لا تكفي وما أحوجنا إلى تحرّكٍ دبلوماسي عربي جماعي يجعل من مبادرة كوستاريكا نموذجاً أمام نحو 70 دولة تتخذ من تل أبيب مقراً لسفارتها ودولة واحدة (السلفادور) لا تزال سفارتها بالقدس. وعلى التحرّك الدبلوماسي والإعلامي الترويج لوجهة النظر العربية الرسمية والتي ترى أنّ أيّ تسويةٍ للمسألة الفلسطينية يجب أنْ تكون نتاج عملية تفاوض تتناول حدود الدولة الفلسطينية المتعارف عليها دولياً وفق حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس وفق حدود الرابع من يونيو أيضاً، واعتبار هذا بمثابة خطوط حمراء عربية لا يمكن تجاوزها.