القدس في الشعر العربي (الجزء الأول)

تاريخ الإضافة الأربعاء 9 نيسان 2008 - 12:35 م    عدد الزيارات 9374    التعليقات 0     القسم

        



تعدّ القدس من أقدم المدن في العالم وأقدسها، فاسمها مشتقّ من القدسية، وتاريخها يعود إلى نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، وهي مهوى أفئدة المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، فالمسلمون يقدّسون هذه المدينة ومسجدها المشهور باسم المسجد الأقصى الذي كرّمه الله سبحانه وتعالى من خلال ذكره في القرآن في قوله:

 

"سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"

 

أمّا المسيحيّون فيقدّسون هذه المدينة بسبب الكنائس الموجودة فيها، وأشهرها كنيسة القيامة التي تعدّ من أقدس الأماكن المسيحية في العالم، وقد بناها الإمبراطور قسطنطين وأمه هيلانة عام 336 للميلاد، وتقام فيها الصلوات في أوقات مختلفة من النهار، وفيها سكنٌ للكهنة والقُسس.

 

ومعروف أنّ العصابات الصهيونية احتلّت القدس على مرحلتيْن، عامي 1948 و1967، وعملت على تخريب المظاهر الإسلامية فيها، كما عملت على تغيير الوضع الديمغرافي ممّا أنتج وضعاً جديداً يتمثّل في أغلبية يهودية ساحقة، وأقلية فلسطينية تسعى إلى تحدّي السلطات الصهيونية التي تتفنّن في ابتداع وسائل تهجيرها. ولأنّ القدس كانت ولا زالت تشغل هذا الشأن الخطير فقد كانت مثار اهتمام الأدباء العرب في العصر الحديث، إذْ راح هؤلاء يكتبون عن تلك المدينة، كلٌّ وفق رؤيته وموقفه وموقعه الإبداعي.

 

ولعلنا نشير هنا إلى أنّ اقتصار هذا البحث على الشعر الذي قيل حول المدينة المقدسة عائد إلى أنّ النصوص الشعرية المتوفّرة كثيرة جداً، خاصةً بعد أنْ أصدرت الشـركة الهندسية لتطوير نظم الحاسبات في القاهرة قرْصاً ليزرياً باسم القدس يحتوي على عدة نوافذ تحيل إحداها على نحو مائة وعشرين نصاً شعرياً حول القدس. وثمّة أمر آخر دفعني إلى التورّط الجميل في هذا البحث، فقد نشر بحث حمل العنوان ذاته، في إحدى صحفنا المحلية، ولكنّه للأسف لم يذكرْ عن القدس سوى أربعة شواهد شعرية منها شاهدان ينتميان إلى قصيدة واحدة.

 

لقد تفاوتت نظرة الشعراء إلى القدس، فمنهم من اقتصر على تصوير حبّه لها، ومنهم من رصد محاولات تهويدها، فيما صور بعض الشعراء النضال الوطني لأهل هذه المدينة الباسلة، وتحدّثوا عن المستقبل يأساً أو تفاؤلاً.

 

وغنيّ عن القول إنّ تشابه الموضوعات لا يجسّد بالضرورة تشابهاً في النص، لأنّ النص له رؤيته وأداته اللتان تميّزانه، فالقدس لا تتعدى عند الشاعر طاهر العنتابي أنْ تكون لغة الجرح، ولا يسعى الشاعر إلى جعلها أكثر من طرف في علاقة حب غامضة:

 

آه.. يا قدس.. يا لغة الجرح..
يا شارة الدم..
يا موسمًا للعصافير..
حين تهاجر في زمن الاغتراب

 

ويبدو لي أنّ مثل هذا الحب الغامض صادر عن عشاق مستسلمين لغواية الحب الساذج الذي لا يستند إلى تمييز محسوس بين القدس وغيرها، فالأبيات التالية للشاعر عبد الناصر محمود النادي تصلح تماماً لأي مدينة عربية، تحتوي مسجداً شهيراً:

 

لا القدس أنساها ولا  تنساني

ملأت فؤادي من مفاتـنهـا التي

قيثارة العربان مسجـدهـا الذي

 

أغــصـانـهـا فـي الـقـلــب والأبــدان

ستظل طـول العـمـر في الوجــدان

سيعيش دومًا في دمي ولسـاني

 

ويبدو من هذه الأبيات أنّه لا فرق حقيقيّ بين قولنا: القدس أو الشام أنساها، إذ ليس ثمة ما يميّز المكان عن سواه، مما ينزع عن الشعر نكهة خصوصية المكان في نص يفترض أنّه يستند إلى الذاكرة المكانية بكل حرف من حروفه.

 

وعلى الرغم من أنّ هذا النص ينتمي للكلاسيكية، فإنّ المرء لا يستطيع أن يتهم الكلاسيكية بالتقصير لأن بعضاً من النصوص التي تنضوي تحت لوائها نجح في إعطاء لغة الشعر خصوصية مكانية، إضافةً إلى تميّزها البنائي والإيقاعي، ويمكن هنا أنْ نشير إلى القصيدة التي نظّمها الشاعر شوقي محمود أبو ناجي في ذكرى إحراق المسجد الأقصى على يد العصابات الصهيونية في 21 آب 1969م، والتي يقول فيها:

 

وطـني فلـسـطــيــن.. وحـــب ترابـهـا

والقدس.. صوت القدس بين جوانحي

أو ليس مسرى المصطــفى؟ أحجـاره

والأنـبـيـاء يـضــيء هـمــس دعـائـهـم

وتــراب غــزة.. حـضـنـه كـم ضــمــنـي

 

لـم تـخــبُ جـذـوتـه لـدى إبـعـادي

شـجـن يـقطــع في نـيـاط فــؤادي

أصغت إلى نجوى الحبـيب الهادي

خـلـف الـرسول عـلى مـدى الآبـاد

وتخــذت مـنـه حصيـرتي ووسـادي

 

وقد رصد بعض الشعراء العرب خصوصية المكان في حديثهم عن القدس، من خلال التركيز على المكانة الدينية لهذه المدينة عبر ذكر الأماكن المقدسة الموجودة فيها، أو عبر الحديث عن معجزتيْ الإسراء والمعراج، وعن القدس بوصفها المدينة التي تجمع الأديان إلى بعضها، فهذا إبراهيم صالح يتحدّث عن ليلة الإسراء والمعراج دون أنْ ينسى الإشارة إلى واقع القدس الحالي:

 

إيـه يـا لــيـلـة تـغــنّى بــهـا الدهـــــ

فــيـك كــان الإســراء كـانـت صـــلاة

ضاء في نورها حمى المسجد الأقـ

ومـضى طــائـر الـسـلام مـن الــقـــد

انظري القـدس من أبــاح  حــمـاهــا

دنستها عـصابة مـن بـني صـهـيـون

 

ــر وغــنّـى لـنـفـحــها الـقــدسـيِّ

الرسل جمعاً خلف الرسول النبيِّ

ـــصى  ولــفــتـه فـي أريـــج زكـيِّ

س يــغــنـي في كــل واد قـــصـيِّ

لـمـطــايــا بــغــي وعــهــــر بــغــيِّ
تـاهــت عـلـى ســراهـا الشـقــيِّ

 

فإذا خرج المرء من التغزّل بالقدس وحبّها ووصف مظاهر قدسيتها إلى المواقف التي أبرزها الشعراء من القدس ومسؤولية العرب عن ضياعها، وعن تحريرها أيضاً، يجد أنّ هناك عدداً من المواقف التي تجسّد رؤى الشعراء لقضية الصراع العربي-"الإسرائيلي"، فمن الشعراء من رفع مقولة "تأثيم الذات" شعاراً له، ومن هؤلاء تمكن الإشارة إلى الشاعر حسن البحيري الذي يدعو بالويل والثبور للأمة العربية والإسلامية، فالجميع لا يسمعون صرخة بيت المقدس ولا يجيبون:

 

ويلٌ لـنـا أنــرى الـعــدا تـنـهى وتأمــر بالحـرم
وبه ابن عبد الله صلى والمسـيح لـه ارتسم
ونرى مقـاليد القيـامة في يــد الطـاغي تـزم
وبها أبو حفص كركـن البيت طوّف واسـتـلـم؟

 

كما استطاع بعض الأدباء أنْ يستشعر الخطر الداهم الذي يتهدّد القدس، قبل سقوطها في يد النازيين الجدد، ولا بدّ هنا من الإشارة إلى القصيدة النبوءة التي حملت عنوان "نجم السعود"، والتي ألقاها الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود بين يدي الأمير سعود بن عبد العزيز، أثناء زيارته لفلسطين، عام 1935:

 

نجم السعود وفي جبينك مطلعهْ

المسجـد الأقـصى أجئـت تـزوره؟

 

أنى توجّــه ركــبُ عــزّك يـتـبـعـهْ

أم جئت من قبل الفراق تودّعه؟

 

وقد حمل بعض الشعراء الجرأة وتوجّهوا بسهام نقدهم إلى فرسان الكلام الذين يعقِدون الاجتماعات، ولا يخرجون بغير القرارات التي لا تعرف طريقها إلى التنفيذ، يقول أبو سلمى:

 

أيّها الحـاكـمون باسم بلادي

قـمــمٌ؟ أي قــمة وفلسـطيـــ

أصبحت هذه العواصم بعد الـ

قرروا الزحف للجـهاد إذا هـم

حـرمونا حـرية الـمـوت حتـى

 

ما الذي تغزلون خلف الستارِ

ـــن وراء الـدمـــوع والأســـوارِ

ـقدس ركناً في متحف الآثـار

أخـذوا يـزحـفــون خـلـف قـرار

يـتـبـاهـوا أمــام الاسـتـعـمـارِ

 

وفي اتجاه مغاير صوّب الشعراء أقلامهم نحو التاريخ العربي المجيد يستجدونه بطلاً مثل عمر أو صلاح الدين، أو غيرهما، لعلّه يهبط إليهم في معجزة كونية. يقول الشاعر محمد أبو المجد سليم:

 

أقـبـل إليَّ -رعـاك الله- يــا عــمــر

أقــبـل إليَّ بـجـيـش مـؤمـن فـأنـا

في كل يوم أنادي.. علّ يسمعني

لا الأذن تسمع من يطفي تأججها

 

ما زال في ساحتي يتسكّع الغجر

تحتي وفوقي وخلفي منهمو خطر

حـر.. يـكـون لـديـه النصـر والـظـفــر

والعـين أتـعـبـها من طـولـه الـنـظــر

 

وقد راح الشعراء يدعون إلى رصّ الصف العربي من أجل القدس، وقد وردت الدعوة إلى الوحدة على لسان أكثر من شاعر، لذلك ليس غريباً أنْ نرى الشاعر هارون هاشم رشيد يدعو إلى ذلك قائلاً:

 

لأجل القدس
لو نكسر هذا الخوف
لو نضرب لأجل القدس
لو نزحف نحو الثأر
لو نغضب لأجل القدس
لو تُجمعُ كِلْمتنا
على وحده
ويعطي كل عربي لها..
بعضَ الذي عنده
وينسى كل شيءٍ
غير يوم الهول والشدّه
لو أنا نلتقي
وأقولها..
مشبوبة الحدّه
لتحلو في رحاب المسجد الأقصى
لنا السجدة..

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



السابق

مقتطفات من قصائد للقدس

التالي

القدس في الشعر العربي (الجزء الثاني)

مقالات متعلّقة

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »

علي ابراهيم

لنصنع جيلاً متعلقاً بالقدس و«الأقصى»

الخميس 6 حزيران 2024 - 3:02 م

شكلت الاعتصامات الطلابية في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، والغرب بشكل عام، ظاهرة جديدة في التضامن مع فلسطين، وانضمام شريحة جديدة للتفاعل مع قضية فلسطين، ورفض العدوان المستمر على القطاع. وفي سياق ال… تتمة »