في ذكرى تحرير القدس

تاريخ الإضافة السبت 11 تشرين الأول 2008 - 9:50 ص    عدد الزيارات 5675    التعليقات 0     القسم

        



في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 1187 دخل صلاح الدين القدس محرّراً بعد ثمانية وثمانين عاماً من الاحتلال الصليبيّ. ويجمع المؤرخون أنّه حاول فتحها صلحاً احتراماً لقدسيّتها وحرصاً على معالمها الأثرية. ولكن الصليبيين داخلها كانوا يشعرون بالقوة بعد أنْ انضم إليهم كثير من المدن والقلاع التي فتحت عنوةً بعد معركة حطين التاريخية. وكان أمير الرملة الصليبي أسيراً وقد استأذن صلاح الدين لإحضار أسرته من المدينة المحاصرة، ولكنّه حنث بقسمه وتولّى قيادة المحاصرين. مما دفع صلاح الدين لبدء هجومٍ لم يطلْ إذْ سرعان ما استسلم المحاصرون. وقد أبقى على حياة جميع المسيحيين وسمح للفرنجة واللاتين منهم بالمغادرة خلال أربعين يوماً لقاء فدية، قدرها عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة وديناران للصبي. فيما ثبت أوضاع المسيحيين العرب والسريان وصان لهم حقوقهم وأملاكهم واعتبرهم "أهل ذمة".

 

ويجمع مؤرّخو المرحلة على الإشادة بمواقفه يومها، إذ سمح بخروج البطريرك الإفرنجي الأكبر بما يحمله من أموال البيع وذخائر المساجد التي كان الغزاة قد غنموها. ولم يأخذْ باعتراض أعوانه الذين رأوا أنّ البطريرك سيقوى بهذه الأموال على حرب المسلمين. كما أنّه استجاب لرجاء أميرات ونبيلات الإفرنج بإطلاق سراح رجالهنّ، وأعفى من الفدية المعوزين من الشيوخ والعجائز. ولم تغلقْ كنيسة القيامة سوى ثلاثة أيام سُمِح بعدها للحجّاج الإفرنج بزيارتها.

 

ويقرّر المؤرخ البريطاني آر. سي. سميل في كتابه الحروب "الصليبية" (ص 50-52) أنّ الإفرنج ومشاركيهم من الشعوب الأوروبية انطلقوا للشرق وهم أسرى ثقافة مشوّهة ومضللة صيّرتهم شديدي التعصب، بحيث اعتبروا المسيحيين الشرقيين "هراطقة" والمسلمين "كفرة" و"برابرة". كما كانوا على قناعة بأنهم يخوضون حرباً دينية غايتها "تحرير" القبر المقدس وتخليصه وامتلاك الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً كما تقول التوراة.

 

والثابت أنّه ما بين الرها في الشمال الشرقي وإنطاكية في الشمال الغربي والقدس والرملة في الجنوب لاقت كلّ مدينة وبلدة أبت الاستسلام بشروط الغزاة التقتيل والتدمير والنهب، وتشرّد الذين كتبت لهم النجاة من المواطنين مسلمين ومسيحيين. وفي هذه يقول المؤرخ د. نقولا زيادة: "الحملة الصليبية الأولى، والفظائع التي ارتكبتها في طريقها وفي احتلال القدس ليس مما يشرف. وقد ظهر لنا رغبات الصليبيين من خلال تصرّفهم مع مسيحيّي فلسطين أنفسهم، فقد استولوا على أديرتهم، وطردوهم من الكنائس والبيوت، فتبعثر المسيحيون في جهات فلسطين وشرق الأردن، وسار البطريرك إلى القاهرة ليعيش في حماية الفاطميين".

 

وغداة احتلالهم القدس سنة 1099 اقترفوا بحق مواطنيها مذبحة رهيبة، يقول فيها جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" (ص 287): "لم يكتفِ قومنا الصليبيون الأتقياء بضروب العسف والتدمير والتنكيل التي اتّبعوها، بل عقدوا مؤتمراً أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس من المسلمين واليهود وخوارج النصارى، الذين كان عددهم 60 ألفاً فأفنوا عن آخرهم، ولم يستبقوا منهم امرأة أو شيخاً".

 

وغداة احتلال القدس حوّلوا المساجد والكنائس الشرقية إلى كنائس لاتينية. وقد أطلقوا على مسجد قبة الصخرة اسم "هيكل الرب"، أما المسجد الأقصى فقد حوّلوا معظمه لكنيسة باسم "هيكل سليمان"، واتخذوا ما تبقّى منه سكناً للفرسان. وفي غالبية المدن المحتلة أزيلت من مساجدها المحاريب وعلّقت فوقها الصلبان بدل الأهلة. وقد منع الأقباط من الحج إلى القدس لاعتبارهم إياهم "هراطقة". ويذكر المؤرخ سميل "أنّ القدس لم تشهدْ بطريركاً أرثوذكسياً"، ويقرّر: "اضطر الأرثوذكس إلى تقديم الطاعة وضريبة العشر إلى رجال الكنيسة الأعلى مركزاً، والمنتمين إلى جنس دخيل، والممارسين طقوساً مختلفة".

 

وفي مواجهة "الإرهاب المقدس" الإفرنجي استفزّ المكون الحضاري للأمة، إذ سرعان ما ارتفعت الدعوة للجهاد من على المنابر في عموم الهلال العربي الخصيب. ولقيت الدعوة استجابة جماهيرية ونخبوية، وألّفت الكتب والرسائل في فضل الجهاد والمجاهدين ومكانة القدس وأهميتها. وتشكّل رأيٌ عام ضاغط على القيادات. وقدّر لهذه الحركة الفكرية أنْ توجّه الأحداث، بدءاً من نهوض البرسقي، أمير الموصل، بدعم حامية حلب والحيلولة دون سقوطها سنة 1124م. ولا أدلّ على أهمية ذلك من قول المؤرخ المعروف توينبي: "لو سقطت حلب لصار الشرق لاتينياً".

 

وبعد اغتيال البرسقي، على أيدي الحشاشين، حمل الراية عماد الدين زنكي، الذي أحال المدّ الإفرنجي إلى جزرٍ بتوحيده شمالي العراق مع شمالي بلاد الشام وتحريره الرها. وأعقبه ابنه عماد الدين وفي زمنه غدت دمشق عاصمة الجهاد. ثم تسلم الراية صلاح الدين الأيوبي، الذي نجح في إقامة دولة الطوق بتوحيد مصر مع بلاد الشام، وبسط نفوذه من الموصل شرقاً إلى تونس غرباً، ومن حلب شمالاً إلى اليمن جنوباً، وأعاد لمصر دورها التاريخي كإقليم قاعدة عربي، ذلك الدور الذي مارسته بنجاح حتى تصفية الوجود الصليبي.

 

وبرغم أنّ تسعمائة وخمسين عاماً تفصل ما بين الغزوتين: الإفرنجية الصليبية والاستعمارية الصهيونية إلا أنّ بينهما قواسم مشتركة. فكلتاهما صدرت عن المجتمعات الأوروبية التي تحمّلت عبء الحملات الصليبية فيما أوروبا والولايات المتحدة لما تزالا تحملان عبء المشروع الصهيوني. وكلتا الغزوتين انطلقت من ثقافة عنصرية شديدة العداء للآخر، ومارست جريمة التطهير العرقي في محاولة إخلاء الأرض "الموعودة" من مواطنيها العرب أصحاب الوجود التاريخي الممتد. واستهانت بالمقدسات الإسلامية والمسيحية، خاصة استهداف مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى. والتماثل يكاد يكون تاماً برغم الفارق الزمني في ارتهان التحرير بالصمود وتنامي المقاومة، وتكامل القوى العربية، وقيام مصر بدورها التاريخي. وكلّ من لديه حسّ تاريخي في قراءة معطيات الواقع ينتهي إلى ما قاله محقاً د. عزمي بشارة من أنّ "إسرائيل" ستلقى نهاية الإمارات الصليبية بإجماعها على رفض كلّ من حل الدولتين والدولة الواحدة".

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



السابق

المقاومة المقدسية المتنامية.. قلق صهيونيّ مضاعف

التالي

القدس لنا... فمن يستحق؟

مقالات متعلّقة

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »

علي ابراهيم

لنصنع جيلاً متعلقاً بالقدس و«الأقصى»

الخميس 6 حزيران 2024 - 3:02 م

شكلت الاعتصامات الطلابية في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، والغرب بشكل عام، ظاهرة جديدة في التضامن مع فلسطين، وانضمام شريحة جديدة للتفاعل مع قضية فلسطين، ورفض العدوان المستمر على القطاع. وفي سياق ال… تتمة »