مجزرة الهدم في وادي الحمص: عن الجريمة، وتوقيتها، ودلالاتها
الخميس 25 تموز 2019 - 4:11 م 2568 0 مقالات |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدوليةنفذت قوات الاحتلال يوم الإثنين الماضي جريمة هدم أخرى تضم إلى مسلسل طويل من الجرائم الإسرائيلية المرتكبة على مدى عقود. تمثلت الجريمة في هدم 11 منشأة سكنية حي وادي الحمص بصور باهر جنوب شرق القدس المحتلة، بذريعة قربها من الجدار الفاصل الذي بدأ الاحتلال بناءه عام 2002 عقب انتفاضة الأقصى تحت عنوان منع الفلسطينيين من الوصول إلى العمق الإسرائيلي وتنفيذ عمليات فدائية. وأقدمت "إسرائيل" على جريمتها على مرأى من العالم أجمع، سبقتها تحذيرات خجولة من تنفيذ الهدم، ومحاولات أكثر خجلاً للتضامن مع أهالي الحي، وأعقبها بيانات استنكار وإدانة فلسطينية، ودولية وأممية، تعلم دولة الاحتلال أنّ البيانات هذه هي سقف المواقف ضد جريمتها، وهو ما جرّأها عليها.
ليست مجزرة الهدم في وادي الحمص الجريمة الأولى التي يرتكبها الصهاينة، لكنّها تأتي في ظلّ تطورات دولية وإقليمية يأتي في مقدمتها صفقة القرن، وسعار المساعي الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية، وبعد تصريحات صدرت عن مسؤولين أمريكيين حول الضفة الغربية وضمّها إلى دولة الاحتلال، علاوة على موجة التطبيع العربي الرسمي المتصاعد مع كيان العدو من دون خجل أو وجل.
فعلى مستوى صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية، يمكن القول إنّ جرائم الاحتلال سابقة على طرح إدارة ترمب رؤيتها لحل الصراع على قاعدة تبني الرواية الإسرائيلية، لكنها في الوقت ذاته هي جرائم تعيش وتتغذّى وتنمو على الدعم والاحتضان الذي تحظى به من الدول الاستعمارية الكبرى، وهو دعم قد يكون بالسكوت عن جرائم الاحتلال وغضّ الطرف عنها، أو بالتشجيع التصريح والعلني الذي تجلّى في أوضح صوره في تصريحات لمسؤولين أمريكيين في الإدارة الحالية، وكان من أبرزها ما أدلى به مؤخرًا جايسون غرينبلات، مبعوث ترمب إلى المنطقة، حول "حق إسرائيل في ضمّ أجزاء من الضفة الغربية"، وأنّ "القدس ستظل عاصمة إسرائيل". ولعلّ هذه التصريحات التي تعد جزءًا من الخطة الأمريكية للسلام، هي أبرز إشارات الموافقة الأمريكية على تغوّل التهويد الإسرائيلي في القدس، ومجزرة الهدم في وادي الحمص، والاستعدادات الإسرائيلية للمزيد من الجرائم.
ليست صفقة القرن وحدها ما يشجّع الإسرائيلي على ارتكاب جرائمه، لكن ثمة الموقف العربي الرسمي المتهالك في جزء كبير منه، إن في السكوت عن صفقة القرن، والمشاركة في تطبيقها أقلّه في حضور ورشة البحرين في حزيران/يونيو الفائت، وفوق ذلك كله التطبيع الذي تنادي به بعض الأنظمة، وتروّج له بدعوى أنّ "إسرائيل جزء من المنطقة" وينبغي التّعامل مع هذا الأمر بواقعية.
وتزامنت جريمة الهدم في وادي الحمص مع وفد من الإعلاميين العرب المطبعين وقد حطّ في "تل أبيب" ليتعرف على دولة الاحتلال من كثب، وفق وزارة الخارجية الإسرائيلية! وزار أحد أعضاء الوفد، المطبع محمـد سعود، المسجد الأقصى، ليلاقي "حفاوة" فلسطينية في استقباله اختصرت الموقف الشعبي من التطبيع مع الاحتلال، ووجّه رسالة واضحة إلى كل المطبّعين: لا مكان لكم في القدس!
لكنّ قتامة المشهد في القدس، وصوره التي تتوالى على تهويد وتطبيع، ينبغي ألّا تنسينا ذكرى النصر في هبّة باب الأسباط في تموز/يوليو 2017، التي أبرزت قوة الردع الجماهيري، وإمكانيّة إجبار الاحتلال على التراجع عن مخططاته عند تحديد الهدف، والإصرار على تحقيقه، والتكاتف من أجل الوصول إليه. فهبة باب الأسباط طرحت شكلاً مميزًا في المقاومة، عاد المقدسيون إلى تكراره في هبة باب الرّحمة في شباط/فبراير 2019، وحقّق الردع الشعبي انتصارًا جديدًا تجلى في فتح باب الرحمة والصلاة فيه في ظل استمرار محاولات الاحتلال إلى اليوم منع تكريس المكان على أنّه مصلى. وربما يكون قرار الاحتلال تنفيذ مجزرة الهدم في حي وادي الحمص تحديدًا مستندًا إلى إمكانية عزل ميدان الجريمة عن ردّ الفعل الشعبي، ومحاولة لصنع انتصار بعد توالي نكباته في باب الأسباط، وباب الرحمة، والخان الأحمر، ليصدّر جريمته انتصارًا في الداخل، ويفرضها رسالة أمر واقع إلى الخارج.
إذًا، أتت مجزرة الهدم محمّلة على أجنحة التصريحات الأمريكية، تحميها صفقة القرن التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتظللها موجة التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي والسير في ركب المشروع الأمريكي، فكانت هذه أبرز العوامل الخارجية التي أتاحت لدولة الاحتلال تنفيذ جريمتها. أمّا على المستوى الداخلي، فنفذت المجزرة في ظلّ الحاجة الإسرائيلية إلى ضربة قوية تسدّدها ضد الفلسطينيين مع اقتراب موعد إعادة الانتخابات التشريعية في الوقت الذي لا تزال فيه عاجزة عن تحقيق تقدّم في ملف الأسرى، ومنهمكة في محاولات تجريد نصر باب الرحمة من مضمونه.