رواد التحرير ورواحل الريادة المنشودة

تاريخ الإضافة السبت 16 أيار 2020 - 4:07 م    عدد الزيارات 2600    التعليقات 0     القسم تدوينات

        


علي ابراهيم

 باحث في مؤسسة القدس الدولية

أفكارٌ على طريق التحرير 4

رواد التحرير ورواحل الريادة المنشودة

 

عن عَبْد الله بْن عمر رَضِي الله عنهُمَا، قَالَ: سَمعْتُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّم يَقُول: (إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) ]رواه البخاري ومسلم[، والراحلة هي الناقة النجيبة السريعة المنقادة الطيعة، ففي كل مئة من الإبل لا يكاد الإنسان يجد راحلة واحدة، وفي هذا الحديث إشارة إلى ندرة الرواحل القادرين على المسير والمضي قدمًا، فلا تكاد تجد في الناس صاحب فضل ومعونة وكرم وجلد على تحمل الأعباء الثقال، وحول هذا المعنى يقول الإمام القرطبي: "الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد، الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم ويكشف كربهم، عزيز الوجود؛ كالراحلة في الإبل الكثيرة".

 

وانطلاقًا من هذا الحديث نجد أن الرواحل في الناس قلة قليلة، وهم الثلة المباركة من المصلحين والعاملين، والعلماء والدعاة وصناع الريادة، وهم في كل عملٍ وحركة جوهرها، ووقود عملها وتحركها، وطريق التحرير لن يقطع صعوباته ويمخر عبابه، إلا الرواد العظماء، والرواحل الأكفاء، فهم أولو العزم من البشر، يحملون هم قضايا الأمة ويحملون معهم غيرهم، يدعونهم إلى المضي قدمًا، يستطيعون التحرك والتحريك، يعيش من أجل قضيته الكبرى، ويسعى جهده إلى خدمتها ورفعة شأنها.

 

فالرواحل هم جوهر الجيل الموعود، ورواد جيل التحرير والتمكين، وهم الحلقة الأولى والأساسية من هذه العملية التكوينية بالغة الدقة والأهمية، فصناعة الإنسان الرياديّ، ليكون راحلة مميزًا في المعرفة والخلق والعمل والعطاء والهمة والشهامة، هي خطوة لا تقل أهمية عن مرحلة التعرف على القدس وقضاياها، بل هي تفوقها إذ تعنى بصناعة رائد للقدس، وراحلة في طريقها، وقد بينت التجارب الميدانية أن المعرفة المجردة لا تحوّل الإنسان إلى كيانٍ متحرك متفاعل، إن لم يرافقها الإعداد اللازم والشحن الإيماني والنفسي والوجدانيّ، فالمعرفة لذاتها نوع من أنواع الترف الفكري، أما إن جاءت في سياق التحرير والتغيير، وإعداد الرواحل المتفردة، ستؤتي أكلها، وسيحول الرائد الماهر هذه المعرفة والعلوم والأفكار إلى معطيات واقعية يمكن تطبيقها على أرض الواقع، وتحويلها إلى خطط واضحة المعالم.

 

وأجد أن هذه الصناعة ضرورية بل هي الحاجة الملحة في هذا الزمن، فهي العملية القادرة على تحويل المعرفة والتشوق لتلك البقعة المباركة، إلى عملٍ ونشاط يسهم في عملية التحرير، فلا بدّ من العمل على صناعة الإنسان الرائد، الذي يحمل الهمّ ولديه همّة، الذي يشكل إضافة نوعية إلى بيئته القريبة، وناصرًا نوعيًا لقضايا الأمة وفي القلب منها قضية فلسطين وبيت المقدس، وهو سياق تم تحقيق مفاعيله تاريخيًا، واختباره عمليًا، فلم يكن جيل الفتح العمري إلا أفضل الأجيال من دون منازع، تربى على يد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن جيل التحرير الصلاحي إلا ثمرة عمل وجهد دؤوبين، من علماء أفذاذ وقادة عظام، صنعوا الجيل القادر على مواجهة الاحتلال الصليبي للقدس، وشكلوا النواة الصلبة لجيش صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وكان في مقدمة هؤلاء المصلحين الإمامان الجليلان الغزالي والجيلاني رحمهما الله وغيرهما في المشرق، وصولًا إلى أبي مدين الغوث رحمه الله في المغرب العربي، فكانوا رواحل الأمة التي قادت أجيال التغيير، واستطاعت تحقيق نهضة حقيقيّة.

 

وحول صناعة هذا الإنسان، ففي ذلك كلام كثير وتجارب فذة، نستطيع اقتباسها من تاريخنا الإسلامي، كالأمثلة التي ذكرتها آنفًا، أو غيرها من التجارب، على غرار تجربة المرابطين في أقصى المغرب العربي، وتجربة أحمد بن عرفان الشهيد في المشرق الأقصى، وغيرها الكثير، إضافة إلى كتابات المفكرين التي تتناول عوائق النهضة، ودراسة واقع الأمة وتقديم الحلول اللازمة، وما يتصل بذلك مما يتعلق بالفرد، تربيةً وتأهيلًا وتقويمًا.

 

إذًا، صناعة الإنسان الريادي علميًا وثقافيًا ومعرفيًا، ومن ثم ميدانيًا وقياديًا، ليكون قادرًا على القيادة وتحريك الجماهير، وصناعة التأثير ومواكبة مستجدات العلم والتواصل وغيرها، وهي جزءٌ من فرض الوقت لمن يريد تحقيق أيّ من المشاريع النهضوية للأمة، لتكون معرفته بالقدس وأحوالها أداة لتحفيز الجماهير وتحريكهم، ووضع الخطط، ونشر المعرفة، وتنظيم الحملات، والتفاعل مع المستجدات، وليكون في هذا كله بؤرة عملٍ ونشاط، يتحرك بتحركه العشرات من أترابه وأقرانه، وهي صناعة لها أربابها ومنظّروها، من علماء هذه الأمة ومصلحيها، علينا الاستفادة من أطروحاتهم وكتاباتهم في هذا الصدد، لنحقق التكامل المنشود.

رابط النشر

إمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) باستخدام أي تطبيق لفتح هذه الصفحة على هاتفك الذكي.



السابق

عامان على نقل السفارة الأمريكية للقدس: واشنطن ماضية "بخطة السلام"!

التالي

هل يستكمل وزير الأمن الداخلي الجديد نهج إردان حيال الأقصى؟

مقالات متعلّقة

منير شفيق

حرب التجويع

الثلاثاء 2 تموز 2024 - 10:40 ص

دخلت حرب الإبادة البشرية من خلال القتل الجماعي المستمر طوال تسعة أشهر حتى الآن، في مرحلة جديدة، وهي مرحلة التجويع العام الدائر دفعة واحدة، لكل أهالي القطاع. وبهذا لم يكفِ القتل الجماعي بالقصف، وهدم ال… تتمة »

علي ابراهيم

لنصنع جيلاً متعلقاً بالقدس و«الأقصى»

الخميس 6 حزيران 2024 - 3:02 م

شكلت الاعتصامات الطلابية في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، والغرب بشكل عام، ظاهرة جديدة في التضامن مع فلسطين، وانضمام شريحة جديدة للتفاعل مع قضية فلسطين، ورفض العدوان المستمر على القطاع. وفي سياق ال… تتمة »